من مخلفات الماضي المرتبك الذي مر به العراق، بغية العمل على تجاوز اشكالاته، ليطلوا على المستقبل، وهو ما تحقق على ايدي رجالات العراق المخلصين في حقول التربية والثقافة والبناء والاعمار ومختلف مؤسسات الدولة الاخرى .. سواء اتفق البعض مع الانظمة التي حكمت العراق او اختلف، لان الحديث هنا عن الدولة وليس عن السلطات التي تعاقبت، بالتاكيد...
بعد العام 2003 جرى وبشكل لافت، تداول رسالة (سرية) للملك فيصل الاول، اول ملوك العراق بعد الاحتلال البريطاني، مطلع القرن الماضي. الرسالة وردت في كتاب تضمن مذكرات لاحد ساسة العهد الملكي، وقال ان الملك كتبها للخاصة والمقربين من اعوانه ومستشاريه، قبيل دخول العراق عصبة الامم المتحدة في العام 1932.. عدّ البعض هذه الرسالة القول الفصل في الشعب العراقي، الذي ياتي وصفه، بانه صعب القياد وغير منسجم مع بعضه ومتمرد على السلطات بطبعه .. الخ .. حيث يقول الملك، وفقا للرسالة طبعا ..(( أقول وقلبي ملآن أسىً… إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل شعبا نهذبه وندرّبه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضا عظم الجهود التي يجب صرفها لاتمام هذا التكوين وهذا التشكيل.. هذا هو الشعب الذي اخذت مهمة تكوينه على عاتقي ))..
سواء صحت حقيقة هذه الرسالة او لم تصح، والاقرب انها صحيحة، نود القول لمن اعتمدوها دليلا ضد العراقيين، ان الذي يطلع على تاريخ الشعوب والدول، سيجد ان الكثير مما قاله فيصل، ينطبق عليها، لاسيما في تلك المرحلة من الزمن. وبحكم قراءتي المتواضعة للتاريخ السياسي للمنطقة والعالم، توقفت عند واقع مشابه في الكثير من الدول، لكنها تجاوزته واصبحت من ماضيها الذي تستفيد من دروسه، لا ان تجلد نفسها باستحضاره.
فالذي يقرا تاريخ اوربا، ولزمن قريب لايتجاوز القرنين، سيدخل الى غابة من فوضى وحروب اهلية بين الاثنيات، لاسباب تافهة، تثير السخرية والالم في آن، لكنها توحدت لاحقا، وباتت دولا ذات شأن .. لقد قرات شيئا من تاريخ اكبر بلدين مجاورين للعراق، هما تركيا وايران، على سبيل المثال، ويعرف الجميع انهما كانا امبراطوريتين، سبقتا العراق الحديث بقرون، الاّ ان اطلالة سريعة على واقعهما، تترك لديك انطباعا بان أي منهما لم يكن شعبا موحدا ومنسجما، بل كان عبارة عن مجاميع بشرية بثقافات متناشزة ومتنابذة، والدليل الحروب الاهلية التي حصلت فيهما، وظلت مستمرة، الى عقود قريبة من الزمن .. ففي تركيا مثلا، يوجد الارمن الذين يقال انهم وقفوا خلال الحرب العالمية الاولى ضد الدولة، حتى حصل لهم ما حصل اثناء تلك الحرب، وهو ما يحرج الدولة التركية الى اليوم، ويستخدمه خصومها ضدها، حين يحتاجون لذلك! وكذلك لواء الاسكندرون، الذي يرى سكانه انهم عرب سوريون، ومشكلته قائمة الى اليوم بين سوريا وتركيا، بالاضافة الى الكرد الذين حملوا السلاح ضد الدولة التركية مرتين في بداية عهدها الجمهوري والى اليوم، وربما تكون هناك قوميات او اعراق يضمها جسد الدولة التركية، برغبة منها او من دونها، لكنها في كل الاحوال باتت جزءا من هذا الجسد تتألم اليوم لألمه وتفرح لفرحه، او هكذا يجب ان تكون. فهل يصح القول ان تركيا ليست دولة؟ او انها اكذوبة، كما يحاول البعض ان يصف العراقيين، بالاستناد الى وجود بعض المشاكل التي افرزتها ظروف مختلفة قبل نحو قرن من الزمن، جاءت مترحلة من قرون سبقته؟... والامر في ايران لا يختلف كثيرا، فهو شعب متنوع، اذ فيه الفرس والتركمان والعرب والكرد والبلوش وعدد غير قليل من الطوائف والاديان المختلفة، وقد شهدت ايران، او (بلاد فارس) قبل تسميتها باسمها الاخير مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، حروبا اهلية وتمردات من قبل اغلب القوميات، وكادت تتقسم لولا ان الارادة الدولية حالت دون ذلك .. فهل يصح القول ان ايران ليست دولة او انها (شعب لملوم!) كما يصف البعض العراقيين، ويدعو الى تمزيقهم تحت هذه الذريعة البالية؟ .. لاشك ان العالم فيه الآلاف من القوميات والاديان والاعراق والثقافات المختلفة، وهذه ليس لكل منها دولة، بل يتواجد في كل دولة طيف ثقافي مختلف وواسع في اغلب الاحيان، وربما شهدت بعض الحساسيات سابقا والى اليوم، لاسيما حين تكون احدى الدول مستهدفة، ويراد تفجيرها من المدخل الاثني، قوميا كان او دينيا، لكن هذا لايلغي كونها دولا باتت موحدة، وتجاوزت اشكالات المراحل السابقة وصارت تطل على الحياة الحديثة بروحية جديدة، تتقبل المختلف وتفتخر به، كونه مصدر غنى ثقافيا، بعد ان كان مصدر تهديد او اقلاق، بفعل قلة الوعي عند جميع شعوب العالم سابقا. فلماذا يطالب العراق وحده بان يكون مثاليا في كل شيء، مع انه ترك خلفه، حين كتابة تلك الرسالة، قرونا مرعبة من التخلف والضياع الحضاري وغياب ثقافة الدولة، التي مازالت بعض ذيولها تتحرك بيننا، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها. لكن فكرة الدولة والروح الوطنية ترسخت في اذهان وعقول العراقيين، وان لم تجد من يفعّلها بالشكل المطلوب، لاسيما بعد شيوع الثقافة السياسية المريضة، التي روج لها البعض بعد العام 2003، ومن ضمن هذا الترويج، الاحتفاء بهذه الرسالة، الوثيقة، على الرغم من ان الملك فيصل، اراد من وصفه ذاك معالجة مشاكل، يعرف انها من مخلفات الماضي المرتبك الذي مر به العراق، بغية العمل على تجاوز اشكالاته، ليطلوا على المستقبل، وهو ما تحقق على ايدي رجالات العراق المخلصين في حقول التربية والثقافة والبناء والاعمار ومختلف مؤسسات الدولة الاخرى .. سواء اتفق البعض مع الانظمة التي حكمت العراق او اختلف، لان الحديث هنا عن الدولة وليس عن السلطات التي تعاقبت، بالتاكيد.
اضف تعليق