مجموعة من الاحداث المتسارعة ضربت الاستقرار الوهمي في المحافظات الجنوبية العراقية، والسبب كما هو ظاهر يقع على عاتق الحكومة التي لم تعالج ملف الكهرباء منذ اكثر من عقد ونصف وصرفت عليها حوالي ثلاثين مليار دولار دون ان تشهد اي تحسن ملموس.
مجموعة من الاحداث المتسارعة ضربت الاستقرار الوهمي في المحافظات الجنوبية العراقية، والسبب كما هو ظاهر يقع على عاتق الحكومة التي لم تعالج ملف الكهرباء منذ اكثر من عقد ونصف وصرفت عليها حوالي ثلاثين مليار دولار دون ان تشهد اي تحسن ملموس.
واضافة الى ملف الكهرباء هناك ملف الخدمات الذي لا يقل اهمية، اما قضية الوظائف وتوفير فرص العمل هي الاكثر خطورة وزادت من سخونة الاجواء التي هيجتها حرارة الشمس اللاهبة وادت الى انفجار الوضع بالطريقة التي نشرتها وسائل الاعلام التقليدية والاجتماعية.
يقول المتظاهرون ان الحكومة ليست مقصرة في توفير الخدمات طوال السنوات السابقة فقط، انما هي لا تحاول ان تقدم اي خطة واقعية تحل ازمة الكهرباء والخدمات او توفير فرص العمل، ويرون ان الاجهزة الحكومية تحولت الى اقطاعيات للأحزاب، وكل مؤسسات الدولة قد استبيحت من تلك الاحزاب واصبحت ملكا لها، والمتفحص في هذه المزاعم يجدها حقيقية وغير كاذبة، فمن الصعوبة ان يجد المواطن وظيفة في وزارة محسوبة على حزب معين دون ان يكون منتميا لذلك الحزب او لديه احد المعارف الذي يزكيه ويضمن ولاءه للحزب، وخاصة الاحزاب التي استولت في يوم ما على وزارات تدر موارد مالية كبيرة.
ورغم ذلك يرى المتظاهرون ان ذلك لا يسمح بالاعتداء على مؤسسات الدولية المنهوبة من قبل الاحزاب، واعلنت الجهات المنسقة للتظاهرات عن رفضها القاطع لأي عملية حرق للمؤسسات الحكومية، وفي رصد سريع لاغلب التقارير الإعلامية العراقية والأجنبية وجدت فيها تصريحات للمتظاهرين او من ينوب عنهم ترفض بشكل قاطع عمليات التخريب، لكن على ارض الواقع حدث العكس، فالكثير من المقرات الحكومية تم الاستيلاء عليها بطريقة النهب كما حدث في مطار النجف الاشرف، وتحولت مقرات الاحزاب الى هدف للحرق ايضا، وكأننا نرى مشاهد من الثورة الفرنسية وكل حزب او دائرة حكومية يمثل يجب تحطيمه.
واقعيا فان عمليات الحرق والاستيلاء على المؤسسات الحكومية والحزبية اجراء غير سليم، وينم عن شيئين: اما ان تكون التظاهرات فاقدة للقيادة ولا تملك اي هدف سوى افراغ غضبها عبر هذه العمليات غير المسؤولة، او ان هناك مندسين بين المتظاهرين يحاولون تخريب الوضع بشكل عام في العراق من اجل تحقيق غايات خاصة باسم حقوق المواطنين.
هذا الوضع اعطى الضوء الاخضر للجهات الخائفة من التظاهرات الى اتهامها بالخضوع لمخطط يعادي العراق ويهوى تخريب ما تحقق من انجازات ترسمها خيالات القيادات الحزبية العراقية، ومثلما وضع المتظاهرون كل الطبقة السياسية في خانة الاتهام، وضعت الأحزاب كل من ينادي بالخدمات في دائرة الاتهام بتنفيذ مخطط تخريبي يريد ارجاع البلد الى الوراء كما يقول رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي.
فهل فعلا هناك مخطط خارجي يريد تهديم المهدم أصلا؟
الإجابة وجدناها في التقارير الإعلامية للأعلام العربي وخاصة السعودي الذي حاول ركوب موجة التظاهرات واستغلالها من اجل اتهام إيران بالوقوف وراء الخراب الذي تعيشه البلاد، او التشجيع على توسيع دائرة المطالب لتصل الى حد الدعوة لتدمير العملية السياسية ككل وانشاء حكومة انقاذ وطني تحت رعاية عسكرية كما تقول صحيفة "ايلاف" السعودية.
كتبت الصحيفة ثلاث مقالا رأي فيها نبرة هجومية على العملية السياسية ككل، فضلا عن عدة تقارير رسمت صورة سوداوية عن الجنوب العراقي، واحد اشد مقالاتها عنفا كتبه عدنان الحلفي، نشر يوم الاحد قال فيه ان "الحل الوحيد (للعراق) يكمن بأزالة النظام السياسي وجذوره وأحزابه ومليشياته". واضاف الكاتب: "أدعو مرة أخرى الجيش العراقي لمساندة الثوار وحمايتهم ومساعدتهم على اقامة حكومة انقاذ وطني تشرف على السلطات الثلاث التي تنبثق من مصدر هذه السلطات وهو الشعب والواجب على الجيش حماية قانون بناء العراق الجديد وابعاد كل الاحزاب والشخصيات والتيارات الدينية ابعادها عن السلطة ومنعها من ممارسة العمل السياسي قضائياً لانها فشلت في ادارة الدولة".
وختم الحلفي مقاله بالقول: "وفق الله ثورة تموز الجديدة التي انطلقت من مدينة البصرة التاريخية وسوف لن تقف الا بالغاء خارطة القوى الغاشمة الحالية وبحكومة انقاذ وطني بمساعدة الجيش العراقي الباسل والقوى الامنية الذي بفضلهم سيبقى السلاح بايديهم وتعاد الامور الى نصابها".
هذا الخطاب رافقه خطاب متناغم من قبل قناة العربية التي تمثل السياسة السعودية وصحف أخرى، عملت على تغطية التظاهرات بطريقة هجومية ضد العملية السياسية وكاننا امام ثورة فرنسية في العراق.
الكثير من القيادات السياسية استغلت مسالة حرق مقرات الأحزاب (وهي مرفوضة فعلا) وانتهاك حرمة المؤسسات الحكومية، وربطت بين هذه الاحداث والتغطية السعودية السلبية للاحداث لتقول ان ما يحدث هو تدبير خارجي، ومن لا يفهم التناغم بين الدعوة لاسقاط العملية السياسية كليا وعمليات حرق الأحزاب من غير الممكن ان يكون داخل رأسه عقل يحل الغاز السياسة. هكذا تقول وسائل الاعلام التابعة للأحزاب.
في الخلاصة، التظاهرات عبرت عن عمق الألم العراقي، وهيجها النقص الكبير في الخدمات والظلم الذي تعرض له المواطن منذ سنوات، وإذا ما استغلت تظاهرات عام 2015 من قبل بعض الأحزاب المتنفذة وحطمت مطاليبها من اجل تحقيق مكاسب انتخابية، فانها اليوم توضع في سياق الصراعات الإقليمية حيث تحاول كل دولة ان توظف ما يحدث في الجنوب العراقي لمصلحتها دون الاكتراث لحال المواطن الجنوبي المظلوم، ومرة أخرى سوف لن يكتب لـ"وليد التغيير" حياة، وسيبقى الوطن بانتظار ولادة جنين اخر يفقس تحت حرارة صيف قادم.
اضف تعليق