هي ليست المرة الاولى التي نشهد تظاهرات مطلبية في العراق، ومع حصول بعض الممارسات العنيفة ضد الممتلكات العامة من بعض المتظاهرين، بيد أن الامر لم يصل الى الثروة الوطنية الكبرى وهي؛ النفط، او التعرّض لمنشأة استراتيجية مثل مطار دولي يستفيد منه العراقيون قبل الاجانب، وهذا إن دلّ علي شيء فإنما يؤكد الانحراف البعيد للتظاهرات الجماهيرية عن مسارها الصحيح والمفيد...
في عالم التجارة الحرة ثمة قاعدة محترمة للتنافس والحضور الاكثر نجاحاً في السوق بوسائل واساليب عدة، وهو ما تقره المجتمعات في كل مكان، وحتى المتخلفة منها، والتي تسعى لأن تكون "نامية"، ومنها؛ العراق، فنجد في شارع واحد تكثر المحال التجارية ذات المعروض المشابه من مستلزمات منزلية، او تقنيات اتصال، او ما يتعلق بالسيارات والمكائن، ويكون التميّز في طريقة التعامل مع المشتري واسلوب العرض، الى جانب بعض الحلحلة في الاسعار لجذب المشتري.
وفي هذا المضمار تمارس المتاجر ومن خلفها المعامل والشركات التجارية الضخمة ضغوطاً على نفسها وتضاعف من الجهد لمزيد من الانتاج والابداع لإرضاء المستهلك، ومن ثمّ تحقيق مصالحها الاقتصادية.
بيد أن هذا لا نجده في عالم السياسية بالعراق، رغم ان الديمقراطية المستوردة تفترض وجود مساحة واسعة من التنافس على كسب الشارع وعلى الاقتراب من مشاكله ومتطلباته وايضاً تطلعاته، ثم العمل على حل الازمات والمشاكل، وهذا ما نلاحظه في عديد البلاد الديمقراطية في العالم، حيث الجميع تتحدث الاحزاب السياسية في فرنسا او المانيا او غيرها من البلاد الغربية، عن ضمير المواطن هناك، فهي تسعى لأن تمثل تطلعاته وما يريد تحقيقه، وبما ينسجم مع افكار ومتبنيات الحزب، وبهذا التنافس تفوز الاحزاب السياسية في الانتخابات وتشارك في الحكومة، لانها تدافع عن حقوق المواطنين أمام تهديدات المهاجرين –مثلاً- او تعمل على تخفيف الضرائب، او حتى تدافع عن حق الاجهاض، بل وتشريع زواج المثليين وغير ذلك، وإن أخفقت هذه الاحزاب في الوصول الى الحكم، فان توجهاتها وسياساتها تتحول الى ميدان المعارضة للحكومة بتنظيم التظاهرات والاضرابات ومراقبة أداء عمل أحزاب الحكومة.
بينما في العراق يبدو ان بوصلة الاحتجاج الجماهيري لا تتجه دائماً صوب الأدء الحكومي لممارسة الضغط على هذا الوزير أو ذاك، او حتى على رئيس الحكومة للعمل على حل المشاكل المستعصية، وانما تتجه صوب الأداء السياسي لهذا الحزب او ذاك، حتى انتبه الكثير في الآونة الاخيرة بأن هذه الاحزاب، وبدلاً من أن تختبر قوتها ومصداقيتها فيما بينها تحت قبة البرلمان، نجد أنها تنقل المعركة الى الشارع ليقاتل المواطن بالنيابة عنها! وبدلاً من أن تمارس هي دور المعارضة بشكل بناء، تترك الأمر للمواطنين ليغوصوا في ركام الفشل والسلبيات بما يسوّد الصورة امام عيونهم بشكل كامل، وذلك من خلال إشعال مواقع التواصل الاجتماعي، الى جانب التعبئة للتظاهر هنا وهناك، حتى بات الكثير من المتظاهرين يعربون عن يأسهم المسبق من جدوائية التظاهر والمطالبة بحقوقهم بعد ان اكتشفوا مؤخراً أن جميع الاحزاب والتيارات السياسية هي ضليعة، بشكل او بآخر في خلق المأساة التي يعيشونها.
عند الحديث عن أزمات ومشاكل في بلد مثل العراق، في مقدمتها أزمة الخدمات، وأزمة البطالة، وأزمة الأمن، فان المطالبة بالتظاهر والاحتجاج يكون حديث تحصيل حاصل، لاسيما واننا ندّعي اننا نعيش تجربة ديمقراطية، إنما المهم في المرحلة اللاحقة من الممارسة الديمقراطية أن نعرف كيف نتظاهر؟ ومن نستهدف في هذه التظاهرات؟ وهل اذا كان الهدف والغاية من التظاهر للحصول على فرص عمل في المنشآت النفطية –مثلاً- نقوم بإجبار العاملين في المنشآت النفطية بترك أماكن عملهم وتجميد أعمال الاستخراج والتصدير، وإن كان العاملين من شركات اجنبية؟!
هي ليست المرة الاولى التي نشهد تظاهرات مطلبية في العراق، ومع حصول بعض الممارسات العنيفة ضد الممتلكات العامة من بعض المتظاهرين، بيد أن الامر لم يصل الى الثروة الوطنية الكبرى وهي؛ النفط، او التعرّض لمنشأة استراتيجية مثل مطار دولي يستفيد منه العراقيون قبل الاجانب، وهذا إن دلّ علي شيء فإنما يؤكد الانحراف البعيد للتظاهرات الجماهيرية عن مسارها الصحيح والمفيد.
يكفي أن نلقي نظرة عن أرقام أوردتها مصادر نفطية عن الخسائر الفادحة التي يتكبدها العراق في حال استمرار توقف عمل المنشآت النفطية في البصرة بسبب الحراك الجماهيري الاخير، فبقطع النظر عن الغضب الجماهيري على الفساد والمحاصصة والفشل الحكومي في ادارة شؤون البلاد والعباد، فان هذا الغضب انصبّ على المكان الخطأ الذي يأتي يتضرر منه العراقيون انفسهم لا غير.
فعندما تفيد التقارير بتوقف عمل شركة لوك اويل الروسية في حقل غرب القرنة، فهذا يعني ان الحكومة العراقية وبحسب العقد المبرم وجولة التراخيص عليها ن تدفع ما قيمته 1 برميل لكل 5 براميل مُنتجةَ في هذا الحقل، واذا كان هذا الحقل ينتج 200 الف برميل يومياً، فيعني أن حصة الشركة يومياً من هذا الحقل 40 الف برميل، واذا كان سعر البرميل الان ما يقارب 70 دولاراً، فيعني أن الحكومة العراقية عليها أن تسدد مبلغ 2.8 مليون دولار يومياً للشركة الروسية هي متوقفة عن العمل لاسباب تعدها خارجة عن ارادتها.
وثمة ارقام اخرى لا نرى حاجة لذكرها فيما يتعلق بإيجار الابراج في الحقول النفطية، واحتمال استعانة الروس بشركات أمنية خاصة لتوفير الحماية لمنتسبيها بسبب التدهور الامني الحاصل، وهو ما ستتحمله الحكومة العراقية، علاوة على الخطورة التي يتحدث عنها الخبراء في الإبقاء على غلق الآبار النفطية والتوقف المفاجئ لاستخراج النفط.
وهنالك سؤال يطرحه المراقبون عن سبب الصمت المريب للشارع البغدادي هذه الايام، وتحريك المدن في الوسط والجنوب؟ وهل ان ازمة الماء النقي في البصرة وليدة اليوم والبارحة، أم انها تعود لسنوات طويلة؟ حتى مسألة فرص العمل، فهي معضلة في البصرة وفي جميع مدن العراق، والقضية واضحة للجميع، "فما عدا مما بدا".
الاحداث الاخيرة في البصرة وفي النجف الاشرف، وربما في مدن أخرى، تؤكد حقيقتين مؤسفتين في العراق، رغم الوعي والتوثب والتفاعل الجماهيري لمواجهة كل ما يمس الكرامة والانسانية، أحدهما؛ الثمن الباهظ دون مقابل، وإن كان، فهو رذاذ للعيون ليس إلا، لأن ببساطة؛ الاستجابة لمطالب الجماهير يعني تنازل جميع الاحزاب والتيارات المشاركة في الحكم عن امتيازاتها ومصالحها.
أما الحقيقة المرة الاخرى، فهي غياب الشريحة الواعية والمتبصرة بعواقب الأمور، ولها قراءة مستقبلية للاحداث ولها خزين من المعرفة والتجارب والعبر، عليها ان تكون هي من يقود الشارع لاستعادة حقوقه، بل وتحقيق تطلعاته وآماله، وهي معروفة بصفات رجالها؛ من علماء وخطباء وأدباء و اكاديميون، من خلال افكارهم وطروحاتهم لتوجيه دفة الاحداث الى ما يضمن حقوق الناس ويحفظ البلاد من الفوضى والضياع، بيد أن الجميع – تقريباً- ما يزالون يقفون متفرجين ينتظرون ما تسفر عنه الاحداث.
اضف تعليق