نحن لا نريد المبالغة في النظر بسوداوية لما يجري في العراق في ظل حالة الانفلات ولا نريد أن نجمّل الواقع ونظهره بما غير ما هو عليه، ولذلك علينا جميع أن لا نقبل بسياسة غض الطرف عمّا يلحق بالشعب من ظلم بسبب فوضى قانون الغاب...
تقاس الأشياء والمواقف الجيدة بأمثالها، وكذا بالنسبة للمواقف الرديئة إذ تقاس بما يشابهها أو يقترب منها في الشكل والمضمون، ولذلك يُقال أن الشيء بالشيء يُذكَر، وهذا يقودنا إلى استفهام عن العنوان أعلاه، ما الشيء أو الأحداث المقاربة التي ذكرتنا بقانون أو شريعة الغاب؟، بالأخص بعد أن نفهم بأن قانون أو شريعة الغاب عبارة تتكرر على ألسنة الناس أو في كتاباتهم، يُقصَد منها حالة من الفوضى حيث يقوم كل شخص بالتصرف كما يريد، ويأخذ حقه بنفسه لأسباب مختلفة منها ضعف الأمن أو سوء السلطة، أما من الذي يُثبت الحق من الباطل، ففي قانون الغاب القوة وحدها هي التي تثبت ذلك، بسبب غياب القيم والأصول والأخلاق، يُضاف إليها غياب سلطة الدولة والقانون أو ضعفهما.
ما الذي ذكَّرنا بقانون الغاب؟ هل هناك واقع مقارب نعيشه بأنفسنا في العراق، هل الدولة ضعيف، هل القانون غائب أو مستضعف، الجواب نعم، وما هي الأدلة التي تثبت ذلك؟، هناك كثير منها، فالأدلة واقعية مرئية مقروءة ومسموعة، وما حالة الفوضى التي تعصف بالبلد سوى دليل قاطع على ذلك، وما كثرة العصابات والخطف والاختلاس والصفقات المشبوهة والابتزاز سوى دليل دامغ على ضعف القانون أو غيابه، والأكثر من ذلك غياب القيم الأصيلة التي ثبَّتها لنا أجدادنا منذ أقدم الأزمنة، وصححها وقومها وأنتها الإسلام، لنصل في واقعنا اليوم إلى تدمير بشع لتلك القيم بمسعى من مروّجي قانون الغاب وإشاعة العبثية والعدمية في حياتنا.
الأمل في بناء دولة ديمقراطية
هل هذه الصورة القاتمة في مشهدنا الوجودي والحياة مبالغ بها؟، وهل نصنعها بخيال مريض لا علاقة له بالواقع، بالطبع من وجهة نظرنا هي مستلّة من واقعنا، وكل من يبحث عن أدلة على اختبار وجودها سوف يصل إلى مراده، ولكن هل نحن مع من يفقد الأمل بتصحيح الأحوال، وإعادة الأمور إلى نصابها؟، هذا هو السؤال الأهم، وهو ما نجيب عليه بأننا لسنا يائسين، حتى وإن بدا أن العراقيين أو نسبة كبيرة منهم مصابون باليأس، فحين نعلن علامات الواقع كما هي ونؤشّر أمراضه الخطيرة لا يعنني أننا يائسين، بل نحن نؤمن بأن معالجة الأمراض لا يمكن أن تُنجَز دون معرفة أسبابها، وإذا عُرف السبب بطل العجب، وسيمكن لنا كعراقيين باحثين عن المعالجات الصحيحة الوصول إلى الأسباب التي روّجت قانون الغاب، ولابد أننا سنسعى إلى وأد تلك الخطط والمحاولات الحثيثة الخبيثة لنشر الفوضى في البلد، لكي يحقق أصحاب المآرب الدنيئة، ما يريدون، منهم من هو عراقي وآخرون من خارجهم لهم أهداف لا يمكن إخفاءها عن المتابع والباحث الحريص الحصيف.
في بحثنا عن الأسباب التي تقف وراء شيوع قانون الغاب، والأماكن التي يزدهر فيها نقول: من أقوى الأسباب تلك الصدمة التي تعرض لها العراق والعراقيون، في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ونعني بذلك إزاحة الدكتاتورية لتحل محلها الديمقراطية بصورة فجائية، مما ينطبق عليها وصف (الديمقراطية الضعيفة المنفلتة)، حيث تسلّل الانفلات إلى كل شيء موجود في العراق، رسمي أو اجتماعي، فالسياسة لا تزال تتخبط بعيدا عن الضوابط والقوانين، في ظل تعدد السلطات، سلطة مركزية اتحادية، سلطات فرعية في المحافظات، سلطات فدرالية (إقليم كردستان)، وهذا التعدد في السلطات تسلل إلى أجهزة مهمة من القضاء والقوات العسكرية والمؤسسات الاقتصادية والصحة والثقافة وكل مجالات الحياة التي لا يمكن أن تُدار من دون سلّم إداري هرمي، ففي كل مؤسسة صغيرة أو كبيرة نجد صراعا على المناصب، والمصالح، ونجد تصادما وصراعا شخصيا وجماعيا يدور معظمه حول المغانم والنفوذ والمال والقوة.
حتى داخل المدرسة وهي مؤسسة صغيرة تُدار من قبل كادر تعليمي سنجد صورة مصغرة للصراع الذي يدور في أكبر مؤسسات الدولة، بل في العائلة الواحدة بات هناك نوع من الصراع بين أفرادها على المصالح، هذه التقابلات الضدية أسهمت بصناعة نزعة استحواذ بشعة لدى الجميع إلا من تمكن ن الحفاظ على نفسه في ظل ثبات القيم لديه، وما ضاعف من حالة الانفلات والتشتت وتعدد الصراعات الفردية أو الأكبر حجما، غياب موقف (الدولة) وانحسار سلطة القانون وانتعاش المحسوبية والحزبية والرشاوى والعشائرية وسواها من العوامل التي جعل القانون في أسفل قائمة الضوابط القادرة على التحكم بسلوك الفرد والمجتمع.
لا غرابة فيما يجري بالعراق
هل هناك غرابة في نعيشه من أحداث في العراق، جلّها ذات طابع إداري يتعلق بالمناصب والسلطة والأموال، بالطبع ليس هنالك سبب كي نستغرب ما يجري داخل المدار السلطوي الاجتماعي في العراق، وقد سبق التطرق لبعض الأسباب التي دفعت بالأمور بهذا الاتجاه، لقد بلغت الفوضى أقصى مراحلها ما جعل من ذلك حجة وسببا للبعض كي يجهر في قوله عن أفضلية الدكتاتورية على الديمقراطية، ولكن ليس هناك نتائج وفوائد عظيمة يحصل عليها الإنسان في ليلة وضحاها، والديمقراطية المستقرة لا تُقَدَّم لنا على طبق من ذهب، نعم علينا العودة إلى تواريخ الديمقراطيات الناجحة، وكيف بلغت المستوى الذي هي عليه الآن، وكم استغرقت من عقود وقرون كي يُشار لها بالبنان، نعم أمامنا طريق طويل وشاق وسوف نصل إلى نظام الحكم النموذجي القائم على أركان الديمقراطية ومنها، تداول سلمي للسلطات، حماية الحريات، حرية الرأي والإعلام، تكافؤ الفرص، العدالة الاجتماعية، وما إلى ذلك من أركان لا يمكن أن يحققها سوى النظام الديمقراطي التعددي.
هل هناك واجبات معينة ينبغي أن نقوم بها لمواجهة قانون الغاب، وكبح مشاهد الانفلات في الدولة والمجتمع؟، نعم كل عراقي يقع عليه جانب من هذه المسؤولية الكبرى، وكل مؤسسة بغض النظر عن طبيعة عملها تتحمل المسؤولية كاملة عن قضية الإسهام في مكافحة قانون الغاب، عبر خطوات إجرائية منها:
- الإسهام بنشر ثقافة الشعور بالمسؤولية حيال الوطن، والالتزام بالمواطنة.
- العودة إلى القيم الأصيلة التي يمكنها أن تكون معايير دقيقة لضبط الفكر والسلوك الفردي والجمعي.
- الكف عن تعدد الولاءات، وتوحيدها وتركيزها في بناء الوطن الديمقراطي الواحد.
- أن يبدأ الفرد من نفسه والجماعة بنفسها في احترام القانون وتطبيقه حرفيا، حتى في أدق الأمور وأصغرها.
- لا يكفي التشريع الجيد، على الرغم من ضعفه في مجالات معينة.
- ينبغي تطبيق كل ما يصدر من القضاء من أحكام وفقا للقوانين التي يقرها القضاء ويوافق على العمل بها.
- مساهمة المؤسسات الاجتماعية في نشر ثقافة القانون.
- على الأسرة أن تقوم بدورها في ترسيخ احترام القانون بين أفرادها ومقارعة الفوضى بكل أشكالها.
- ويقع على المدرسة والجامعة مسؤولية التثقيف على احترام القانون.
- الإعلام ينبغي أن يتحمل مسؤولياته في هذا المجال.
- جميع المنظمات الثقافية والمدنية والحقوقية والقانونية ينبغي أن تسهم بصورة فعالة في محاصرة كل ما يمت من فكر أو سلوك لقانون الغاب.
خلاصة القول، نحن لا نريد المبالغة في النظر بسوداوية لما يجري في العراق في ظل حالة الانفلات ولا نريد أن نجمّل الواقع ونظهره بما غير ما هو عليه، ولذلك علينا جميع أن لا نقبل بسياسة غض الطرف عمّا يلحق بالشعب من ظلم بسبب فوضى قانون الغاب، وأن لا نتهرب عن مسؤولية هذه المواجهة التي ينبغي أن نسهم بها بقوة في مقارعة كل ما ومن يسعى لتقويض سلطة القانون والأعراف والأخلاق، وهذا كما هو واضح عمل جمعي يشترك فيه الفرد، والمؤسسات، والدولة بكل جهودها التنظيمية الإدارية والمالية، لكي تصبح قضية إزاحة قانون الغاب وإطفاء بؤر الفوضى حقيقة نلمسها بأيدينا كعراقيين متطلعين إلى حياة أجمل وأفضل.
اضف تعليق