مازالت بعض القوى لدينا تجتر الماضي وتستدعي الخلافات، ليس انطلاقا من رؤية وطنية في التعاطي مع الملفات الكثيرة العالقة، بل من اجل التماهي مع اجندة قد لاتكون للعراق مصلحة فيها، وهنا تكمن حكمة العمات ممن لم يكن في بالهن ان يبكين تلك الفتاة، وانما اردن ان يعطنها درسا في الحياة سيفيدها في حياتها القادمة ... هل كنا بحاجة الى عمات اكثر من حاجتنا الى خالات؟ .. ربما يكون السؤال متاخرا كثيرا!...
ينقل عن المفضل الضبّي، قوله؛ (( بلغنا أن فتاة من بنات العرب كانت لها خالات وعمّات، فكانت إذا زارت خالاتها ألهينها وأضحكنها، وإذا زارت عماتها أدبنها وأخذن عليها. فقالت لأبيها: إن خالاتي يلطفنني وإن عماتي يبكينني. فقال أبوها وقد علم القصة: أمر مبكياتك، أي الزمي واقبلي أمر مبكياتك))..
لاشك ان هذه الحكاية او الحكمة التراثية، رددها علينا اهلنا كثيرا عندما كنا صغارا او صبيانا، ومازلنا نسمعها قليلا، وتكاد تختفي من قاموسنا اليومي. فاهلنا كانوا يلفظونها بلهجتهم العامية (امشي ورا المبجيك ولا تمشي ورا المضحكك) واجزم ان اغلبهم لا يعلم قصة هذا المثل، الذي ترحّل من زمن اللغة والفصاحة الى ازمنة الضياع الحضاري الذي شوّه صورة حياتنا، لاكثر من ستة قرون، وضاعت فيه لغتنا بعد ان توزعت بين لغات الغزاة ولهجاتهم!
واقعنا السياسي منذ العام 2003 خضع لمؤثرات الخارج بشكل غير مسبوق، وكانت صور هذا التاثير متعددة، فمنها الاحتلال وتداعياته المعروفة، ومنها طبيعة القوى السياسية التي امسكت بالسلطة، فهذه توزعت بين عقائد متناشزة ومرجعيات خارجية متنازعة على العراق، او تريد كل جهة ان يكون العراق في محورها او في الاقل ليس معاديا لها، لاسيما ان المنطقة شهدت حالة استقطاب حادة، قبل اندلاع الحريق المعروف بالربيع العربي! الذي اريد منه رسم خارطة جديدة للمنطقة، الامر الذي جعل مسالة المجال الحيوي لأي دولة في المنطقة، مسالة وجود ومصير.
المفارقة تكمن في ان القوى العراقية، او اغلبها، ذهبت منذ البداية وراء من يضحكها او يفرحها، من خلال دعمه لها، ثم استمرأ اغلبها هذه اللعبة التي لن تمر من دون ثمن، سيبكي العراق فيما بعد، او بعد ان وجد نفسه، موزعا من خلال تلك القوى بين فرقاء دوليين واقليميين، عندما فقد اغلب ساسته الحكمة التي يجب ان يتعلموها من الذين تصوروا انهم يريدون ان يبكوهم، او الذين حذروهم من لعبة المحاصصة الطائفية التي كانت البداية لكل هذا الخراب.
دول الجوار من حولنا، التي تدعم هذه الجهة او تلك عندنا، فيها قوى سياسية، لكنها لم تتوزع بين الدول الخارجية، وانما وضعت مصلحة بلدانها قبل كل شيء، فكانت تتقدم كل يوم، بينما نحن نتخلف ونتراجع كل يوم، ولعلنا نتابع كيف تجري الانتخابات في كل من ايران وتركيا، مثلا، التي يكون محور الصراع بين المرشحين فيها، هو مستقبل البلاد وعلاقاتها مع الخارج، مثلما العلاقة مع المواطن، بما يؤمن مستقبلها، بينما تختلف اغلب القوى السياسية عندنا في كل انتخابات على المغانم الحزبية وارضاء الداعم الخارجي، ويغيب البرنامج الوطني الواضح والخطة المستقبلية للعلاقة بين العراق ومحيطه، والعلاقة بين الشعب وساسته، أي لايوجد قاسم مشترك واضح ومعلن بين القوى المرشحة يجمعها على شكل معين للعلاقة مع دول الاقليم وغيرها، بل توجد مشاريع متناشزة تماما، وهكذا ينتقل الصراع الخارجي الى الميدان العراقي، عند كل دورة انتخابية، ويصبح الصراع على السلطة هدفا بحد ذاته.
انتخابات تركيا الاخيرة، كشفت عن تجاوز القوى السياسية هناك للعقائد الحزبية، والاتفاق على برنامج وطني .. اردوغان وحزبه الاسلامي، يتحالف مع حزب الحركة القومية اليميني، ويفوزان، من اجل هدف سياسي مشترك، بعيدا عن أي شيء اخر، بينما مازالت بعض القوى لدينا تجتر الماضي وتستدعي الخلافات، ليس انطلاقا من رؤية وطنية في التعاطي مع الملفات الكثيرة العالقة، بل من اجل التماهي مع اجندة قد لاتكون للعراق مصلحة فيها، وهنا تكمن حكمة العمات ممن لم يكن في بالهن ان يبكين تلك الفتاة، وانما اردن ان يعطنها درسا في الحياة سيفيدها في حياتها القادمة ... هل كنا بحاجة الى عمات اكثر من حاجتنا الى خالات؟ .. ربما يكون السؤال متاخرا كثيرا!
اضف تعليق