مشروع صفقة القرن هو ببساطة شرعنة للواقع القائم على الأرض فلسطينيا وعربيا ليس إلا؛ وعليه فإن التصدي للصفقة فعليا وليس نظريا منوط بالبدء فورا في تغيير هذا الواقع فلسطينيا على الأرض؛ وأول هذا التغيير يبدأ بإنهاء الانقسام الفلسطيني لأنه أحد أهم الأعمدة الواقعية القائمة التي...

طبقا للتسريبات المتعاقبة عن ما بات بعرف بصفقة القرن، ومن خلال المتابعة لكل التصريحات التي تصدر هنا وهناك، فنحن أمام مشروع تسوية بالمعالم التالية:

أولا: قضية القدس: ستضم إسرائيل جغرافياً لها مساحة 70 كم من الضفة الغربية وهي المساحة التي كانت قد أعلنت عن ضمها مطلع الثمانينات من القرن الماضي؛ ضمن ما عرفته بمدينة القدس الموحدة؛ وهذه المساحة تتضمن كل الحدود البلدية لمدينة القدس الشرقية أبان الحكم الأردني عشية الرابع من حزيران 1967، والتي كانت قرابة 70كم، ومن المعروف أن المدينة القديمة التي تضم المسجد الأقصى تقع ضمن تلك الحدود؛ وتقترح الخطة أيضا أن تتخلى إسرائيل عن بعض المناطق محدودة المساحة وذات الكثافة السكانية العالية داخل 70 كم آنفة الذكر كمخيم شعفاط في الشمال وجبل المكبر في الجنوب لتم يضمهما لمدينة جديدة شرق حدود الـ70 كم تسمى القدس الفلسطينية وتكون هي عاصمة الكيان الفلسطيني الناتج عن هذه التسوية مع العلم أن تلك المناطق داخل 70كم لن تكون ذات تواصل جغرافي مع القدس الفلسطينية المقترحة.

ستقع المدينة القديمة بمقدساتها المسيحية والاسلامية ضمن الحدود السيادية لدولة إسرائيل؛ ولكن الأماكن المقدسة فيها ستحظى بوضع خاص متفق عليه؛ وستتكفل المملكة الأردنية الهاشمية برعاية الأماكن المقدسة فيها طبقا للواقع السائد منذ العام 67؛ ويمنح الفلسطينيون الحق بالوصول للأماكن المقدسة للصلاة ومن ثم العودة من حيث أتوا سالمين آمنين فلا مقام لهم في أرض لم تعد أرضهم طبقا للتسوية المقترحة.

ثانياً: قضية الحدود: لن يكون للكيان الفلسطيني الناتج عن التسوية في الضفة الغربية أي حدود شرقا مع الأردن على الأقل في المدى المنظور؛ وهو ما يعني أن منطقة الغور ستنتقل من التصنيف ج إلى ب وليس أكثر، وأما شمالا وغربا وجنوبا فقد رسم الجدار العازل سلفا تلك الحدود؛ وما تبقى من مستوطنات وبؤر استيطانية خارجه فستكون محل للتفاوض بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.

ثالثاً: قضية اللاجئين هم أكثر الخاسرين من هذه التسوية بشطب حقهم في العودة وإلغاء صفة اللاجئ عنهم عبر تصفية وكالة الغوث؛ والاستعاضة عنها بهيئة أخرى تتولى تنمية مناطق تواجدهم وتعويضهم ماليا عن حقهم المسلوب بعد أن يتحولوا إلى مواطنين في الكيان الفلسطيني الناتج أو مواطنين للدول التي يقيمون فيها حيثما أمكن ذلك.

رابعا: مستقبل قطاع غزة: ثمة محددات تحكم شكل قطاع غزة في التسوية، أولها أن يتم تعقيم غزة عسكريا إما بالجزرة أو بالعصى، ولكن وضع غزة المأساوي إضافة إلى اللحظة السياسية الراهنة يضع كثيرا من العقبات أمام خيار العصي؛ ويبدو خيار الجزرة الأقرب للواقع، وهو ما بدأ التهيؤ له عمليا عبر خطة الإنقاذ للوضع الإنساني في القطاع، ومن الواضح أن ثمة نجاحات غير معلنة تتحقق في هذا الصدد وكذلك وضع قطاع غزة الدائم في هذه الصفقة سيكون أفضل بكثير من وضع الضفة من حيث مستوى السيادة للكيان الفلسطيني الناتج من التسوية، وهذا التباين ذو دلالات عميقة في رسم علاقة الضفة بغزة في هذه الصفقة؛ والتي من الواضح أنها ترسم شكلا ما من الكونفدرالية السياسية بين شطري الوطن والذي يدعمه واقع الانقسام الفلسطيني على الأرض بحيث تكون غزه أقرب إلى مصر منها إلى الضفة.

خامساً: السيادة والشكل السياسي للكيان الفلسطيني: سيكون أقرب لدولة كونفدرالية في الضفة والقطاع معترف بها ولكنها تحت الانتداب الإسرائيلي خاصة في الضفة الغربية؛ أما قطاع غزة فسيكون أكثر تعبيرا عن مفهوم السيادة والاستقلال بحكم موقعه الجغرافي والديمغرافي، وكذلك بحكم موقعه المتدني استراتيجيا في خارطة المصالح الأمنية والعسكرية الحيوية لإسرائيل ونظرا لأنه يمتلك حدود خارجية برية لا تتحكم فيها إسرائيل عسكريا وحدودا بحرية على ضفاف المتوسط؛ وسيكون من مصلحة إسرائيل أن تكون مفتوحة مع العالم الخارجي طبقا لاتفاق موقع مع من يحكم القطاع من الفلسطينيين مدعمة برقابة دولية وإقليمية تضمن بأن لا تستخدم في الإضرار بها، وفي نهاية المطاف سنكون أمام كيان سياسي فلسطيني كونفدرالي مقسم جغرافيا؛ وما يربط شطريه بدولتي الجوار(الأردن ومصر) أكبر من روابطه الكونفدرالية.

سادساً: حوافز الصفقة سيصاغ إلى الدعوة لمؤتمر دولي فور إنجاز التسوية لتتدفق المليارات لدعم السلام وانعاش الاقتصاد الفلسطيني الذي يقبع في بطن الاقتصاد الإسرائيلي؛ وستصبح إسرائيل دولة طبيعية وطليعية في الشرق الأوسط يَأُمها ملايين العرب والمسلمين للسياحة بأنواعها ولعمارة المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وستغزوا المنتجات الاسرائيلية الأسواق العربية والاسلامية، وستدفق المليارات العربية عليها نتاج المشاريع الاقتصادية المشتركة والتحالف السياسي العربي الإسرائيلي الأمريكي؛ والذي سيظهر للعلن بعد طول انتظار ولا يستبعد قط أن تحظى إسرائيل بمقعد دولة مراقب إن لم يكن دائم في الجامعة العربية نظرا لأن ربع سكانها بعد التسوية سيكونون عرب فلسطينيين.

إن مشروع صفقة القرن هو ببساطة شرعنة للواقع القائم على الأرض فلسطينيا وعربيا ليس إلا؛ وعليه فإن التصدي للصفقة فعليا وليس نظريا منوط بالبدء فورا في تغيير هذا الواقع فلسطينيا على الأرض؛ وأول هذا التغيير يبدأ بإنهاء الانقسام الفلسطيني لأنه أحد أهم الأعمدة الواقعية القائمة التي تبنى عليها الصفقة والشروع فورا في إجراء انتخابات رئاسية ومجلس وطني في الداخل والشتات يعقبه تنظيم استفتاء على استقلال دولة فلسطين في الضفة وغزة؛ ويكون توطئة لإعلان تحول مؤسسات السلطة إلى مؤسسات الدولة استنادا لقرارات الشرعية الدولية.

إن هذه الخطوة هي بمقدور الفلسطينيين لإيقاف صفقة القرن ولو مؤقتا وهي الرد العملي الممكن الذي يستند لإرادة شعبية ديمقراطية؛ وهي ستضع أصحاب صفقة القرن وجها لوجه أمام الشعب الفلسطيني برمته ليعرضوا عليه صفقتهم؛ وليقول الشعب رأيه فيها عبر استفتاء ديمقراطي عليها، وجل المواقف الدولية والإقليمية من تسريبات الصفقة لا تعبر بالضرورة عن حقائق الأمور ما دامت لا تستند لفعل على الأرض؛ فالصفقة ترسى دعائمها وتنفذ نصوصها على الأرض يوم بعد يوم. ومن المؤكد أن استمرار هذا الواقع سيؤدي في نهاية المطاف إلى تمرير الصفقة وانتزاع التوقيع الفلسطيني عليها، ومنطقيا ليس بوسع أي قيادة مواجهة حجم الضغوط الذي يمارس في الوضع الطبيعي؛ فكيف الحال في وضع كوضع الشعب الفلسطيني المنقسم والقابع تحت الاحتلال.

إن الذين وضعوا أسس هذه التسوية أعلاه هم أشخاص واقعيون حتى الثمالة؛ والذين يستمدون زخمهم من واقع قوتهم وسيطرتهم والتي جعلتهم يغرقون في واقع لحظة تاريخية شاذة أعمتهم عن رؤية قرون من التاريخ؛ وإدراك حجم فاعليتها في توجيه دفة الصراعات الانسانية العادية؛ فكيف الحال في صراع هو قائم في الأساس على مصداقية الرواية التاريخية والعقائدية لطرفيه.

إن إنهاء الصراع بتسوية كتلك ليس استسلاما فلسطينيا وحسب بل هي استسلام مذل لأمة بأكملها لرواية تدحض وتسفه تاريخها وعقيدتها؛ وهي ببساطة أول الخطوات في طريق سيعبد في نهاية المطاف بدماء ملايين البشر في حرب دينية لن تتوقف إلا بقضاء طرف على الآخر، إنهم يعبدون الطريق إلى هرماجدون أو معركة آخر الزمان وهو ما يشي بعقائدية مهووسة بالقوة وراء ستار تلك الواقعية الثملة.

إننا أمام عقائديون يريدون أن يشكلوا مصير العالم طبقا لنبوءات عقائدية؛ ولسنا أمام ساسة يدركون الأبعاد الاستراتيجية العميقة للصراعات الدولية، ومن الواضح أن العالم سيبقى في خطر ما بقى أولئك يديرون من وراء الستار عبر دمى متحركة؛ وكذاك الشعبوي الذي اعتلى سدة البيت الأبيض ويدير بمنطق القوة دفة السياسة الدولية، وعلى قادة العالم ومفكريه أن يدركوا خطورة ما يجري قبل فوات الأوان.

* أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
Political2009@outlook.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق