أشار المختصون بالعلاقات الدولية إلى أن تركيا تعتمد على سياسة الربط بين الملفات الأمنية والملفات السياسية من جهة والملف المائي من جهة أخرى، وتعتقد أنه لا يمكن الوصول لحلول نهائية بشأن الملف المائي مع دول الجوار دون حل الملفات الأخرى مثل إنهاء تواجد حزب العمال...
دق ناقوس الخطر في العراق، حاملا إشارات الإنذار للحكومة العراقية بحاضر ومستقبل هذا البلد من النتائج والتداعيات الخطيرة التي يمكن أن يواجهها مستقبل العراق، في الوقت الذي تقف الحكومة الحالية وهي في أيامها الأخيرة من الحكم مكتوفة الأيدي دون إتخاذ إجراءات يمكنها من الحد من أزمة جفاف نهري دجلة والفرات بسبب اكتمال إنشاء السدود المحاذية للحدود العراقية مع تركيا وإيران.
يتكرر اليوم نفس المشهد الذي برز في منتصف سبعينات القرن الماضي فيما يخص الأزمة المائية بين العراق وتركيا، عندما أنجز الجانب التركي بناء سد كيبان أحد السدود الضخمة وتخزين المياه فيه، وبداية تسعينات القرن الماضي، عندما أنجز سد أتاتورك وقد بلغ نقص المياه في العراق حدا كبيرا، بسبب العجز في الميزان المائي بين العرض المحدود والطلب المتزايد على المياه، واستمرت الأزمة والمفاوضات حول كمية المياه الداخلة للأراضي العراقية إلى أن أعلن في 1/ حزيران/2018 إنجاز سد إليسو ضمن السياسة المائية التركية المتمثلة بمشروعها الضخم (GAP) المتضمن إقامة 22 سدا و19 محطة كهرومائية لإستصلاح 1.9 مليون هكتار على نهري دجلة والفرات، في الوقت الذي تقدم فيه لتركيا مكاسب ومزايا مهمة، سوف تنعكس بآثارها الاقتصادية الضارة على العراق، ومن ثم ستصبح مشكلة المياه ذات تأثير سلبي على العلاقات بين الدولتين.
الخلافات التنظيمية الفنية بين الطرفين
تعتقد تركيا أن مطالبات العراق بزيادة حصته من المياه، لا تستند لأسس العلوم الزراعية لأن حصصه المائية المقررة كافية لمشاريعه التنموية والزراعية إن أحسن استخدامها تبعاً لمبادئ الإدارة المتكاملة للموارد المائية، والعراق مطالب بالآتي:
1- إجراء جرد كامل لموارده المائية.
2- إعادة تقييم للتقنيات المائية والزراعية المعتمدة سواءا في الري أو تراكيب التربة والأصناف الزراعية وطرق الزراعة.
وعلى ضوء الإعتبارات السابقة يتم تحديد الحاجات المائية الفعلية. وأن تركيا غير معنية بالعجز المائي في العراق نتيجة سوء الإدارة المائية، وإتباع طرق بدائية في الري والزراعة على المستوى الوطني.
وبحسب خبراء في المجال الزراعي والمائي، فإن المطالب التركية تعد مشروعة وسوء الإدارة المائية تعود لعقود من الزمن ومازالت تتحمله الحكومات المتوالية على العراق، لكن بذات الوقت يجب مناقشة المطالب التركية من الناحية الفنية، حيث أن تنفيذها يتطلب: وقتاً طويلاً وقد لا تتطابق وجهات نظر الخبراء الفنيين بشأنها مما يؤدي لعدم إعتمادها كصيغة لتحديد الحصص المائية وبالتالي العودة للمربع الأول أو طلب التحكيم الدولي، وإبدال الأصناف النباتية المتدنية الإنتاج والشرهة للماء يتطلب أموالاً طائلة وخطط طويلة الأجل، وإعتماد الطرق التقنية الحديثة في الري يتطلب تفعيل الإرشاد الزراعي وتوعية الفلاحين بفوائدها وتوفير الإعتمادات المالية والسلف للفلاحين لإقتناءها وقد يستغرق ذلك وقتاً طويلاً، بالإضافة إلى تحليل تراكيب الترب الزراعية تحتاج إلى مختبرات حديثة وكادر علمي لاختصار المدة الزمنية للإختبارات اللازمة ولا يمكن إعتماد ذات التقنيات التقليدية للوصول إلى النتائج المرجوة.
الخلافات السياسية بين الطرفين
أشار المختصون بالعلاقات الدولية إلى أن تركيا تعتمد على سياسة الربط بين الملفات الأمنية والملفات السياسية من جهة والملف المائي من جهة أخرى، وتعتقد أنه لا يمكن الوصول لحلول نهائية بشأن الملف المائي مع دول الجوار دون حل الملفات الأخرى مثل:
1- إنهاء تواجد حزب العمال الكُردستاني من الأراضي العراقية، وتتهم تركيا الإدارة الكُردية في شمالي العراق بتقديم مساعدات لوجستية ومالية لشن هجمات إرهابية ضد مراكز حيوية في العمق التركي. ونتيجة ضعف المركز وعدم قدرته على فرض إرادته على كامل التراب العراقي فإن تركيا مضطرة للقيام بعمليات عسكرية داخل الأراضي العراقية للحد من نشاط المجموعات المعادية.
2- ترقب ومخاوف تركية من تنامي التوجهات الإنفصالية للإدارة الكُردية في العراق، مما يشجع أكراد تركيا على مطالبات مماثلة في المستقبل.
3- تصريحات إستفزازية وغير موفقة لسياسيي أكراد العراق ضد تركيا لدعم المجموعات الإنفصالية، مما يشجع المسؤولين الأتراك على إتخاذ مواقف متشددة بشأن حبس مياه النهرين عن العراق للضغط على الحكومة العراقية للقيام بواجبها في ردع التصرفات اللامسؤولة لتجار الحروب ضد جيران العراق.
وبحسب مراقبون فإن تركيا تستخدم المياه كسلاح ضد العراق لحسم الملفات السياسية العالقة سابقة الذكر التي تتحمل نتائجها السلبية 15 محافظة عراقية نتيجة مصالح فئوية ضيقة تسعى بعض القوى السياسية لتحقيقها وعلى حساب بقية فئات الشعب العراقي.
السدود الإيرانية خطرها فاقع
أما السياسة المائية الإيرانية، فإنها أقل تأثيرا من التركية، لكنها تشكل خطرا على الزراعة وخصوصا في المنطقة الجنوبية، حيث أقامت إيران عدة مشاريع أهمها تلك المقامة على نهر الكارون الذي يعد الرافد الرئيسي لشط العرب، مما زاد من نسبة الملوحة فيه. ووفق هذا، وعلاوة على تصحر مساحات من الأراضي العراقية، فإن الأهوار الجنوبية الممتدة على ستة آلاف ميل مربع لن يكون بمقدورها إعانة المساحات الزراعية الكبيرة بسبب تعرضها إلى الجفاف هي الأخرى. وقد بدأ منذ أعوام تقلص مساحات الزراعة في بعض المحافظات الجنوبية والوسطى.
وبدأت إيران بعد عام 2003 بالضغط على الحكومة العراقية، وسط صمت مطبق، عبر منافذ المياه التي يمتلكها، وحوّلت 90% من أنهرها الصغيرة الجارية في العراق إلى داخلها، أو أنشأت سدوداً عليها من دون إشعار الجانب العراقي بذلك. ويذكر هذا المسلك بما فعله الشاه الإيراني عام 1960، حين أنشأ سداً على نهر الوند ليقطع المياه عن خانقين ومندلي، لتعود اليوم مرة أخرى بقطع إمداد نهر الزاب الصغير في السليمانية، ليحتفظ اقليم كُردستان بخزينه المائي لمواجهة الأزمة من خلال سدوده، الأمر الذي زاد تعقيدا على نهر دجلة وتأثير المناطق الوسطى والجنوبية بالجفاف السريع.
كلمة أخيرة
يتبين مما سبق، أنه بالرغم مما يزعم من شرعية المطالب التقنية والفنية التركية والإيرانية، يتطلب أن تراعي دول الجوار ما يمر به العراق من حالة عدم إستقرار سياسي وأولويات التوظيفات المالية في المشاريع التنموية التي تمس حياة المواطنين المعيشية وعدم استغلال الظروف اللاطبيعية التي يمر بها العراق للمساهمة بمزيد من الفقر والجوع والتصحر، فموضوع المياه الحيوي بكل أبعاده وتفاصيله تلك، لا يحل بالتأكيد بالقوة من جانب العراق، برغم شعوره بالغبن، وبرغم الأضرار الكبيرة اللاحقة به. ولكن السؤال المثار بالمقابل يتعلق بمدى الإهمال الذي يبديه حكامه الحاليون، وإنشغالهم عن هذا الأمر، وإنعدام امتلاكهم لرؤيا حول كيفية معالجته، ولأجهزة أختصاص قادرة على التفاوض الإقليمي والدولي الدؤوب والعنيد، وعلى طرح المشكلة قبل فوات الأوان وتغيّر طبيعة العراق: من بلاد ما بين النهرين، حضن الحضارة البشرية والزراعية تاريخياً.. إلى صحراء قاحلة.
اضف تعليق