q
ضجّت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بصور وبوستات وفديوهات أزمة المياه التي تضرب العراق، من شماله إلى جنوبه، بعد أن باشرت تركيا بتشغيل سد إليسو، وهو سد اصطناعي ضخم يقع على نهر دجلة بالقرب من قرية إليسو وعلى طول الحدود من محافظة ماردين وشرناق في تركيا...

ضجّت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بصور وبوستات وفديوهات أزمة المياه التي تضرب العراق، من شماله إلى جنوبه، بعد أن باشرت تركيا بتشغيل سد إليسو، وهو سد اصطناعي ضخم يقع على نهر دجلة بالقرب من قرية إليسو وعلى طول الحدود من محافظة ماردين وشرناق في تركيا، وهو واحد من 22 سد ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول والذي يهدف لتوليد الطاقة الهيدروليكية والتحكم في الفيضانات وتخزين المياه، ويوفر هذا السد طاقة مقدارها 1.200 متر مكعب وستكون سعته 10.4 بليون م3، وقد بدأ إنشاء السد في عام 2006.

وكان العراق قد طلب من تركيا عبر وزارة الموارد المائية تأجيل ملء السد المذكور بضعة أشهر من آذار إلى حزيران الجاري، وبعد انتهاء مدة التأجيل المتَّفق عليه، باشرت تركيا بملء هذا السد من السيول التي كانت تتجه نحو الأراضي العراقية عبر نهر دجلة، فهبطت إطلاقات المياه في نهر دجلة إلى النصف، مما أدى إلى تضرر مئات الدونمات الزراعية وحرمانها من السقي، وتلف المحاصيل وموت الأشجار، وخسارة مئات العوائل الفلاحية لمصدر رزقها.

في الحروب التي تقع على الأبواب تستعد الدول لمواجهة الخطر القادم، فتبني الجيوش وتسلحها بالعدد القتالية المتطورة، وتستعد لمواجهة الحرب، من حيث العدة والعدد، وحرب المياه التي تجري ضد العراق من دول الجوار، (تركيا من خلال سد إليسو وإيران في قطعها لنهر الزاب الصغير عن إقليم كردستان) في إجراء متزامن من قبل الدولتين مع بدء الحكومة العراقية الجديدة بخطوات التشكيل، وهذه في الواقع خطوة واضحة من دول الجوار لإجهاض أي أمل بالحكومة القادمة ومنعها من الانشغال بالأهداف التي تدفع باستقرار العراق وتقدمه إلى أمام، ولكن مقالنا هذا لا يسع للخوض في هذا الأمر.

ما نسعى إليه هنا، ما هي الإجراءات التي اتخذها العراقيون لمواجهة حرب المياه، وهل استعدت الدولة العراقية لهذه الحرب وهي تطرق أبوابها منذ سنوات؟، بالطبع لم تقم الدولة بأية إجراءات حاسمة تدرأ خطر هذه الحرب المائية التي لا تقل خطرا في نتائجها عن آثار الحروب العسكرية، ولكن لماذا هذا التلكّؤ والخلل، ومن هو المسؤول عنه؟، وهل الحكومة أو الوزارة المختصة هي وحدها مسؤولة عمّا يجري من تهاون وتباطؤ إزاء مواجهة حرب المياه؟.

نحن نتساءل هنا، هل قام المواطن العراقية بالتعامل مع الماء بعقلية واعية حكيمة، وهل ثقافته أسعفته لكي يدرك المستوى الأجود من التعامل مع ما متاح له من ماء في حياته اليومية؟، بالطبع ثقافة العراقيين الضعيفة وقلة وعيهم بأهمية الماء، وكيفية استخدامه بالطريقة الملائمة، أسهمت بطريقة وأخرى في نشوء أزمة المياه واستفحالها، فالعوز الثقافي للعراقيين أدّى بهم إلى عدم القدرة على تنظيم الاستهلاك المائي بطريقة جيدة، أي أنهم أسهموا في عملية هدر جماعي للماء في أثناء الاستخدام اليومي له.

لا ينحصر هذا بالعائلة العراقية فحسب، إنما يتعداه إلى الجماعة، والأفراد، فقد صرح خبير مائي ومسؤول مهم هو وزير الموارد المائية، بأن التجاوزات الكبيرة والمتكررة على أنابيب الماء من قبل الأفراد، بعد كسرها وتسرب الماء منها، يعد ظاهرة خطيرة لهدر كميات مائية هائلة، لا تقل خطرا عن التجاوزات التي تجري على أنابيب النفط، فالوعي الفردي والجمعي نتيجة لضعفه يدفع بهؤلاء إلى التجاوز على أنابيب الماء، والمشكلة الأكبر أن الجهات المسؤولة لا تتخذ الإجراءات القانونية المناسبة بحق المتجاوزين، وهذا يشكل خللا ثقافيا أيضا ليس لدى المواطن المتجاوِز فحسب، بل حتى الجهات المطبِّقة للقانون تعاني من العوز الثقافي والوعي أيضا.

ويحيلنا الخلل القيادي الرسمي في إدارة ملف الموارد المائية، ونقص الاستعداد اللازم لمواجهة حرب المياه التي تخوضها دول الجوار ضد العراقيين، إلى سبب واضح له علاقة مباشرة بالعوز الثقافي للبنية المجتمعية التي أفرزت هذه القيادات، فهؤلاء السياسيون المسؤولون عن ملف المياه ظهروا من البنية الاجتماعية العراقية، وثقافتهم لا تختلف في نوعها وجدّتها عن الثقافة والوعي الجمعي، لذلك كيف ننتظر من مسؤول خرج من مجتمع يعاني من العوز الثقافي أن يكون قادرا على وضع الحلول المناسبة والاستعدادات الإستباقية لمواجهة هذا النوع من الحروب.

فالعجز في معالجة هذه الأزمة ليس تنظيمي وإداري فقط، بل هو ثقافي أيضا، يتعلق بالبيئة التي تخرّج منها المسؤولون عن إدارة وتنظيم المياه، وهذا يعني بأن الدبلوماسية والزيارات المكوكية والمؤتمرات، وحتى القوانين الدولية التي تنظم العلاقة بين الدول المتشاركة بالأنهار، ستبقى عاجزة عن إيجاد الحلول اللازمة، فهل يرتبط هذا الأمر بثقافة الفرد والمجتمع وبدرجة الوعي التي يتحليان بها؟.

بالطبع ثقافة الفرد والجماعة، وإدراكهما لأهمية المياه، وقدرتهما على تنظيم الاستخدام المائي السليم، سوف يسهم بدرجة كبيرة في حل الأزمة، ولكن تنطلق هذه الرؤية من وعي وثقافة مسبقة، تزرعها البيئة في عقل الفرد وعقول الجماعة، ونظرا لأن هذا الإجراء يستغرق زمنا طويلا نسبيا، فإن المطلوب لمعالجة المياه الحالية إجراءات فورية سريعة، تتصدى لها الدولة والمؤسسات المختصة على وجه السرعة، ولكن يبقى العوز الثقافي أساس هذه الأزمة وسواها من الأزمات، ما يعني أننا نقف في مواجهة الحاجة النوعية والكبيرة لرفع الإدراك والوعي والثقافة، ورتق الخرق الثقافي في البنية الاجتماعية، والتشجيع على إدراك جماعي لأهمية الماء، وكيفية استهلاكه في أساليب تنظيمية تنمّ عن وعي ومسؤولية وحرص فردي جماعي يشمل القطبين الأهلي والرسمي.

لم نقف بعد على حافة الهاوية في شأن أزمة المياه، ولكننا لسنا بعيدين عن هذه الحافة، الدولة والحكومة والوزارة المعنية يجب أن تستنفر جهودها، ولا تدير ظهرها إلى أهمية الثقافة والوعي والشعور بالمسؤولية في معالجة هذه الأزمة المتنامية موسما بعد آخر، ربما لم يفتْ الأوان بعد، ولكن ينبغي الشروع الفوري بآليات جديدة مع أزمة المياه، باتخاذ إجراءات عملية مباشرة، منها تشغيل الدبلوماسية، واعتماد الضغط الدولي المنظماتي، مع ترصين السياسة المائية الداخلية والتخطيط لها كبناء النواظم والسدود والخزانات، ولكن لابد أن يدرك الجميع، أن العوز الثقافي وتدني الوعي الفردي والمجتمعي في استهلاك المياه والكف عن هدرها، لا يقل أهمية عن اتخاذ الإجراءات العملية الفورية وبعيدة المدى لمعالجة هذه الأزمة الخطرة.

اضف تعليق