قد يغيب عن المشهد خيار العودة للشعب الفلسطيني من خلال إجراء انتخابات رئاسية بسبب حالة الانقسام، ومبررات قد يسوقها كل طرف للطرف الآخر، وعليه سيشهد النظام السياسي ولادة مرحلة جديدة جوهرها نظام سياسي برأسين وجسمين، وهو ما يسهل من عملية الانفصال إن المطلوب وطنياً لتحصين...
في ظل الحديث عن مرض الرئيس محمود عباس وحالة الغموض التي تحيط بطبيعة المرض - نتمنى له الشفاء العاجل- إلا أن غيابه بالوفاة أو عدم الأهلية، سيترك أثراً على بنية النظام السياسي الفلسطيني، ولن يكن هناك انتقال سلس للسلطة كما حصل بعد وفاة الراحل ياسر عرفات، حيث تولى رئيس المجلس التشريعي سدة الحكم لستين يوماً وهو روحي فتوح عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وأجرى انتخابات فاز بها الرئيس محمود عباس وهو من حركة فتح أيضاً، أما اليوم فنحن نتحدث عن رئاسة حمساوية للمجلس التشريعي، وانقساماً فتحاوياً عمودي وأفقي، مناطقي وجهوي، وتدخل إقليمي ودولي وإسرائيلي.
هذا يدفعنا للإجابة على التساؤلات التالية: ما هي أبرز الملامح والمراحل التي مرّ بها النظام السياسي الفلسطيني...؟ وما هي تداعيات وفاة الرئيس محمود عباس على بنية النظام السياسي الفلسطيني...؟ وما هو المطلوب وطنياً لتحصين النظام السياسي الفلسطيني من الاختلالات المحتملة لمرحلة ما بعد عباس...؟
أولاً: ملامح ومراحل النظام السياسي الفلسطيني.
إن النظام السياسي الفلسطيني ومنذ نشأة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م، وحتى عام 2003م وهو العام الذي شهد استحداث منصب رئيس الوزراء، كان نظاماً سياسياً رئاسياً، يتسم بالفردانية والشخصانية، والتحكم في القرارات السياسية والإدارية، حيث شغل هذا المنصب منذ عام 1964 وحتى أواخر عام 1967م السيد أحمد الشقيري، وفي عام 1969م تولى ياسر عرفات قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وقيادة السلطة الفلسطينية، وبقي مهيمناً ومسيطراً على النظام السياسي الفلسطيني.
إلا أن هناك تطوراً حدث في التاسع من يناير/1996م وهو انتخاب مجلس تشريعي فلسطيني، بحيث أصبح للنظام السياسي الفلسطيني برلماناً يشرع ويصدر القوانين، ولكنه لم يرتق لدرجة أن يؤثر على بنية النظام السياسي الفلسطيني كونه نظاماً رئاسياً، ولكن بعد عام 2003م واستحداث منصب رئيس الوزراء، بدأ صراع بين المؤسستين الرئاسة والحكومة، وهو ما دفع رئيس الوزراء حينها السيد محمود عباس إلى الاستقالة، لذلك لم تمكث حكومته سوى أربعة أشهر.
ومنذ تاريخ 6/9/2003م، وحتى تاريخ 28/3/2006م، تعاقبت ثلاث حكومات على النظام السياسي الفلسطيني، ليؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن النظام السياسي الفلسطيني نظام غير مستقر، وتحيط به بيئة إقليمية ودولية، وخصوصية الحالة الفلسطينية، التي تميزه عن باقي الأنظمة السياسية السائدة في العالم، فهو النظام السياسي الوحيد الذي يخضع تحت احتلال، وهو النظام السياسي الوحيد الذي تتعمد إسرائيل على تقويضه وإضعافه من خلال ممارساتها على الأرض عبر استهداف وتدمير المؤسسات السياسية، وضرب البنية الاقتصادية، واغتيال أو اعتقال النخبة السياسية، وهو النظام السياسي الوحيد في البيئة العربية، غير متواصل جغرافياً، حيث يفصل الاحتلال بين قطاع غزة والضفة الغربية، وهو النظام السياسي الوحيد مثار اهتمام جميع القوى الإقليمية والدولية نظراُ لأهمية ومحورية القضية الفلسطينية.
دخل النظام السياسي الفلسطيني مرحلة جديدة بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات في 11/11/2004م، ووصول السيد محمود عباس إلى سدة الحكم بعد انتخابات رئاسية في يناير/2005م، وتجسدت هذه المرحلة بالتحول من الشخصانية والفردانية والجهوية إلى نظام سياسي مؤسساتي، وعمل الرئيس محمود عباس جاهداً على تجسيد ذلك، ودخل في حوار مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والتي قاطعت الانتخابات الرئاسية، وكانت حينها من أكبر فصائل المعارضة على الساحة الفلسطينية، وتوصل الرئيس محمود عباس مع حركة حماس إلى إعادة صياغة قانون الانتخابات، وتم التوافق على قانون رقم9/2005، وكان من أهم مطالب حماس التي تم تلبيتها من قبل الرئيس محمود عباس في قانون الانتخابات الجديد هو تنازل محمود عباس ومن خلفه حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، عن الإشارة إلى أي مرجعيات سياسية تقوم عليها الانتخابات التشريعية المقبلة، بالإضافة إلى بعض القضايا التي تم التوافق عليها في حوارات القاهرة في مارس/2005م، لتؤكد رغبة الرئيس محمود عباس ومن خلفه حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) برغبتهم في بناء نظام مؤسساتي يشارك فيه الجميع.
وبذلك دخلت حركة حماس الانتخابات التشريعية عام 2006م، وحصلت على (74 مقعداً) من أصل 132 مقعد بنسبة تترواح 56%، بالإضافة إلى دعم حركة حماس أربع مستقلين جميعهم نجحوا في هذه الانتخابات، وبهذه النسبة كفل القانون الأساسي الفلسطيني (الدستور المؤقت) لكتلة التغيير والإصلاح التابعة لحركة حماس بتشكيل الحكومة الفلسطينية العاشرة، ودخل النظام السياسي بعدها مرحلة النظام السياسي المختلط، ولكن دون كوابح وجوامح ومحددات تحكم العلاقة بين المؤسستين، وهنا سادت حالة الاشتباك السياسي بين الطرفين، وهنا يجدر التنويه أن النظام السياسي في ظل اللون السياسي الواحد وهو حركة فتح سادت لديه حالة من الاشتباك السياسي بين مؤسستي الحكومة والرئاسة، ولكن اليوم هناك فصيل يختلف في الرؤى والفكر السياسي والأيديولوجي، والارتباطات الإقليمية والدولية، وهي حركة حماس.
وسادت علاقة ملتبسة بين مؤسسة الرئاسة والحكومة، حتى وصلت إلى مرحلة التصادم العسكري، فسيطرت قطاعات أمنية من حكومة الوحدة الوطنية بدعم ومساندة من الجناح العسكري لحركة حماس، كتائب الشهيد عز الدين القسام على قطاع غزة، وفي المقابل عملت الرئاسة وخلفها حركة فتح على المحافظة على حكمها في الضفة الغربية، ولن يغيب المحدد الإقليمي والدولي من هذا المشهد فهو حاضر دائماً في جميع فصول القضية الفلسطينية لأهميتها، وبدأت سياسية المحاور والأحلاف تؤثر على النظام السياسي الفلسطيني، حتى أصبح نظام سياسي برأس وجسمين، فقطاع غزة تحكمه الحكومة الفلسطينية المقالة والتي أقالها الرئيس بعد اتهامه لها بالانقلاب عليه، وكان ذلك بقرار ومرسوم رئاسي، وحكومة طوارئ لم تنل الثقة من المجلس التشريعي.
وبعد التاسع من يناير/2009م، دخل النظام السياسي في أزمة جديدة وهي انتهاء الولاية القانونية للرئيس محمود عباس والذي حددها القانون الأساسي بأربع سنوات، كل ذلك عمل على تأزيم النظام السياسي، وتجسد الانقسام الجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن كل ذلك كشف عورة النظام السياسي الفلسطيني.
ثانياً: تداعيات وفاة الرئيس محمود عباس على بنية النظام السياسي الفلسطيني.
أولى هذه التداعيات ستكون حول هوية الرئيس القادم، فحركة حماس ستعلن تمسكها بالقانون والدستور حيث تنص المادة (36- فقرة 2) من القانون الأساسي المعدّل على ما يلي: "إذا شغر مركز رئيس السلطة الوطنية في أي من الحالات السابقة يتولى رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني مهام رئاسة السلطة الوطنية مؤقتًا لمـدة لا تزيد عن ستين يومًا تجرى خلالها انتخابات حرة ومباشرة لانتخاب رئيس جديد وفقًا لقانون الانتخابات الفلسطيني". وهو ما حصل بالضبط بعد وفاة ياسر عرفات حيث تم تعيين رئيس التشريعي روحي فتوح رئيسًا للسلطة لمدة شهرين، واستلم الرئيس عباس السلطة من فتوح بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية عام 2005م.
وفقًا لهذا السيناريو فإن القيادي في حركة حماس عزيز دويك رئيس المجلس التشريعي سيكون هو رئيس السلطة بعد رحيل الرئيس محمود عباس.
حركة فتح ستذهب إلى أحد خيارين: الأول أن يتولى رئيس المجلس المركزي سليم الزعنون رئاسة السلطة. الثاني: تعيين نائب للرئيس محمود عباس وحسم الجدل حول خلافته.
قد يغيب عن المشهد خيار العودة للشعب الفلسطيني من خلال إجراء انتخابات رئاسية بسبب حالة الانقسام، ومبررات قد يسوقها كل طرف للطرف الآخر، وعليه سيشهد النظام السياسي ولادة مرحلة جديدة جوهرها نظام سياسي برأسين وجسمين، وهو ما يسهل من عملية الانفصال.
إن المطلوب وطنياً لتحصين النظام السياسي الفلسطيني من الاختلالات المحتملة لمرحلة ما بعد عباس، أن يتم العمل على احترام القانون الأساسي المعدل لعام 2005م، مع ترجيح كفة الخيار الديمقراطي (الانتخابات)، وإغلاق الباب أمام أي تدخل دولي وإقليمي في فرض شخصيات سياسية فلسطينية على شعبنا، فالشعب الفلسطيني ليس عاقراً حتى يقبل بوصاية الخارج عليه.
اضف تعليق