تفتح الحياة الديمقراطية السليمة ذات المؤسسات المستقرة افاق التقدم والانجاز والاصلاح في المجتمع، على خلاف الاستبداد والدكتاتورية حيث ينمو التخلف ويتفكك المجتمع شيعا وجماعات متنافرة لا يجمعها رابط...
حينما ادرس مقدمات حركات النهضة والتقدم والاستقلال في التاريخ الحديث، مثل الثورة الانگليزية والاميركية والفرنسية، فضلا عن اليابان وماليزيا وغيرهما، اجد ان نقطة البداية والشروع كانت من المركب الحضاري والقيم الحافة به وبعناصره.
ربما لم يستخدم منظرو ومفكرو وقادة هذه الثورات الحضارية التاريخية هذا المصطلح تحديدا، لكن افكارهم واعمالهم ونشاطاتهم واجراءاتهم كانت تجسيدا لمشروع تغييري اصلاحي يستهدف المركب الحضاري مباشرة. فقد عمل المفكرون والقادة على اشاعة القيم الحافة بالمركب الحضاري والعمل بموجبها بوصفها مؤشرات سلوك للفرد والمجتمع والدولة. وقد انتج ذلك وعيا سياسيا مجتمعيا عميقا ادى الى تحرك المجتمع نحو مفهوم الدولة الحضارية التي تمت اقامتها بدرجات متفاوتة في بلدان عديدة.
لا يجد الباحث صعوبة في ان يشخص ان دعوات الاصلاح والتغيير الموجودة في مجتمعنا مازالت بعيدة عن دائرة التفكير بالمركب الحضاري وبقيمه وباصلاح نواحي الخلل الحاد فيه، والتي تؤدي الى اجهاض حركة المجتمع الحضاري وتقلل من انتاجيته وقدرته على التقدم والتكامل.
والديمقراطية والحرية وسيادة الانسان او "خلافته في الارض" كما في التعبير القراني تمثل راس الحربة في مشروع اصلاح الخلل في المركب الحضاري ونقطة الشروع الموصلة الى الهدف فعلا. ولهذا نجد ان الحراك المجتمعي الذي شهدته بريطانيا عام ١٢١٥ (قبيل سقوط الدولة العباسية) ضد الملك جون لم يطالب بتحسين الخدمات والتعيين وانما طالب بالحرية، ولهذا كانت النتيجة انجازا تاريخيا هائلا هو وثيقة الماگناكارتا التي وفرت الاساس المتين للثورة الصناعية والتطور الديمقراطي في بريطانيا.
نفتقد هذا في الدعوات الاصلاحية التي ترفع رايتها الطبقة السياسية الراهنة في العراق. فرغم ذكر بعضها مفهوم تعزيز الديمقراطية في البلاد، الا ان ممارساتها مازالت بعيدة عن التجسيد العملي لهذا المفهوم. لقد عمدت شريحة كبيرة من المواطنين الى عدم الاشتراك في الانتخابات لعدم ثقتها بامكانية التغيير من خلال الانتخابات بسبب قانون الانتخابات الظالم (الانتخاب الجماعي) و الذي تصر الطبقة السياسية على اجراء الانتخابات بموجبه. ويفترض ان يؤثر هذا الموقف على طريقة تفكير وتصرف الطبقة السياسية باتجاه احترام ارادة الشعب والتعزيز الفعلي للديمقراطية من خلال التشريعات التي تعزز دور الشعب في الحياة السياسية من خلال قانون الانتخاب الفردي. تفتح الحياة الديمقراطية السليمة ذات المؤسسات المستقرة افاق التقدم والانجاز والاصلاح في المجتمع، على خلاف الاستبداد والدكتاتورية حيث ينمو التخلف ويتفكك المجتمع شيعا وجماعات متنافرة لا يجمعها رابط.
اضف تعليق