التجربة الفلسطينية العبقرية في فكرة المقاومة الشعبية السلمية؛ والتي أسست لها الانتفاضة الأولى واستلهمتها مسيرة العودة هي الخيار الفلسطيني الصحيح في ظل الوضع القائم اليوم، والذى أظهرت فيه الخيارات الأخرى إفلاسها، لكن علينا أن نستفيد من تجاربنا الخاطئة؛ وأن نعيد تقيم التجربة...
بينما كانت إسرائيل تحتفل بنقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس، كان جيشها هنا في غزة وعلى مقربة من مقر الاحتفال يرتكب مجزرة مصورة بالصوت والصورة ومنقولة مباشرة عبر الفضائيات التلفزيونية؛ بحق الآلاف من المتظاهرين الفلسطينيين المدنيين السلميين؛ وكان قناصة محترفين ومدربين تصيدوا قرابة الثلاث آلاف فلسطيني، وقتلوا منهم قرابة المئة أما البقية فقد أصابوهم بجراح ما بين الخطيرة والمتوسطة؛ ومن المؤكد أن جزء كبير من تلك الحالات سوف يلحق برفاقه الشهداء نظرا لضعف الإمكانات الطبية في قطاع غزة المحاصر؛ والذى يترنح بين الحياة والموت، وبالتدقيق في قائمة الشهداء سنجد قرابة 25 طفل وإمرأة وثمة رجل مبتور الأطراف اسمه فادى أبو صلاح يتحرك على كرسي متحرك؛ ومن الواضح أن ذاك الوحش الآدمي الذى أطلق رصاصه القاتل عليه قد أدرك استحالة أن يتفادى هذا الرجل المُقعد رصاصه نظرا لقصور حركته بفعل الإعاقة.
ومن الواضح أن إسرائيل وحكامها الصهاينة مصرون على إرسال نفس الرسالة التي أرسلها أجدادهم المؤسسين للفلسطينيين عبر مجازر التهجير كدير ياسين، بأن الصراع هو صراع وجود فإما أنتم وإما نحن، ولكن المفارقة ما بين الأمس واليوم هو أن مجزرة اليوم ترافقت مع حفل تدشين السفارة الأمريكية في القدس؛ وذلك توطئة لصفقة سلام أمريكية تُعد خطوة نقل السفارة أول بنودها. إنه سلام القبور؛ هذا السلام الذى تترافق أولى خطواته العملية بمجزرة كتلك التي ارتكبت على حدود غزة، وتلك الصفقة التي يتحدثون عنها الأمريكيين هي صفقة القبر التي يراد لها أن تدفن الضمير الإنساني والشرعية الدولية وحقوق الانسان مع كل فلسطيني وطني حر يرفض الذل والعبودية؛ ويسعى للعيش بحرية وكرامة على أرضه في عالم أصبح يفتقد لجل معانى ومعالم الضمير الإنساني.
والسؤال المطروح على الفلسطينيين اليوم هو.. هل أخطأنا بتبنينا المقاومة الشعبية السلمية كخيار للحرية والاستقلال؟ الجواب قطعا لا؛ ولكن ثمة أخطاء قد ارتكبت في هذا السياق وهى كالتالي :
- أولاً: أن هذا الحراك ترافق مع الانقسام الفلسطيني، وهو ما أدى إلى عدم وجود تنسيق بين شطري الوطن في فعالياته؛ وهو ما أدى إلى استفراد إسرائيل بغزة وتسديد أكبر قدر من الخسائر بين متظاهريها السلميين.
- ثانيا: هيمنت حركة حماس على الحراك في غزة ظاهريا وفعليا، وهو ما أدى إلى تكثيف الضغط عليها دبلوماسيا وعسكريا؛ وهو ما ظهر بالأمس عبر زيارة رئيس الحركة إلى مصر؛ والتي من الواضح أنه تلقى خلالها رسائل وعود ووعيد وتحذير، وعلى ما يبدو أن حركة حماس تأخرت في فهم الرسائل أو أرادت المناورة حتى عصر اليوم، ولكن عندما بدأت إسرائيل بإرسال أول رسائلها العسكرية عبر البدء في استهداف المواقع والبنية العسكرية للحركة بأول سلسلة غارات استهدفت تلك المواقع في عمق مدينة غزة؛ مما دفع الحركة لممارسة ضغط فورى على المتظاهرين وإبعادهم عن الحدود ولكن بعد فوات الآوان؛ فقد كان قناصة الاحتلال قد أزهقوا أرواح ما يزيد عن خمسين فلسطيني خلال ساعات معدودة والآلاف الجرحى، وهو ما وضع ألف علامة استفهام حول مستقبل مسيرات المقاومة الشعبية السلمية في ظل سيطرة حركة حماس عليها وعلى مقاليد الحكم الفعلي في القطاع.
إضافة إلى أن الطريقة الارتجالية التي تمت بها تلك المسيرات وانتهت بها خلال أقل من ساعة تحت تهديد القوة العسكرية هو تكريس وترسيخ فاضح لمعادلة الردع العسكري القائمة بين إسرائيل وقوى المقاومة المسلحة في قطاع غزة؛ والتي منعت تلك الفصائل من أي رد عسكري ولو حتى محدود على مجزرة الحدود، وهو ما يضع علامة استفهام أكبر عن دور المقاومة المسلحة وسلاحها بالحد الأدنى باعتبارهما درعا دفاعيا وحاميا للشعب؛ وهو ما لم يراه الشعب الفلسطيني الغارق في دمائه على حدود غزة، فهل تحولت المقاومة المسلحة لجيش نظامي يأتمر بأمر حكامه ويحميهم ويدافع عن مصالحهم في تكريس سطوة حكمهم على الشعب؛ ويحتفظ بحق الرد في المكان والزمان المناسبين واللذان لن يجتمعا قط إن كان الحال كذلك، وفي هذه الحالة من الأفضل أن تخضع المقاومة المسلحة للسلطة الشرعية المعترف بها دوليا؛ وسيكون ذلك أحفظ بكثير لماء وجهها أمام الشعب والعالم وأمام أعدائنا.
إن التجربة الفلسطينية العبقرية في فكرة المقاومة الشعبية السلمية؛ والتي أسست لها الانتفاضة الأولى واستلهمتها مسيرة العودة هي الخيار الفلسطيني الصحيح في ظل الوضع القائم اليوم، والذى أظهرت فيه الخيارات الأخرى إفلاسها، لكن علينا أن نستفيد من تجاربنا الخاطئة؛ وأن نعيد تقيم التجربة، وأن ننطلق بها مجددا ونحن موحدين ولا يسيطر على مجرياتها فصيل بعينه، وبطريقة مدروسة ومقننة تكون نتيجتها تحصيل أكبر مكاسب سياسية بأقل خسائر ممكنة ضمن خارطة طريق واضحة الهدف والمعالم للطفل الفلسطيني قبل الشيخ وبشعار مفهوم وواضح وإستراتيجية واضحة ومنطقية وممكنة التحقق.
وعليه إن أردنا أن نقبر صفقة القرن قبل أن تفنينا هي وإلى الأبد.. فلا خيار أمامنا اليوم إلا إنهاء الانقسام حفاظا على ما تبقى من وطن ووفاءً لدماء الشهداء.
اضف تعليق