تشكل الخطوة الأمريكية ضربة أخرى لإيران وهي في الحقيقة بمثابة تضييق الطوق حول عنقها، نظرا للتداعيات الاقتصادية التي ستترتب على الاقتصاد الايراني؛ والذى لم يكن قد تعافي بعد من قرابة أربع عقود من العقوبات التي كانت قد رفعت لتوها قبل أقل من عامين، وليجد نفسه اليوم...

انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الايراني كما وعد ترامب؛ وأعاد فرض رزمة عقوبات أمريكية على إيران، وفي المقابل حظيت الخطوة بأسف واعتراض الاتحاد الأوروبي وإدانة الروس والصينيين لها؛ وهما الدولتان الموقعتان على الاتفاق ضمن الدول الخمس الكبرى مع ألمانيا، وعلى الطرف الآخر حظيت الخطوة بتأييد دول مجلس التعاون الخليجي وإسرائيل باعتبارها خطوة في الاتجاه الصحيح، ورغم الانسحاب الأمريكي إلا أن الاتفاق لم ينهار بعد، ففد أكدت الدول الخمس الموقعة عليه أنها لا زالت ملتزمة به، وهو ما دفع إيران إلى إعلانها هي الأخرى التزامها المؤقت والمشروط به رغم الانسحاب الأمريكي؛ وهذا يعنى أن إيران لا زالت تعطى فرصة لكل الأطراف الموقعة لإيجاد صيغ بديلة عن الانهيار المتوقع للاتفاق.

ولكن حقيقة الأمر أن خروج الولايات المتحدة من الاتفاق وفرضها لعقوبات أكثر تشدد من تلك التي كانت مفروضة على إيران قبل توقيع الاتفاق يجعل من الاتفاق حبر على ورق ليس أكثر، نظرا لأن تلك العقوبات من شأنها شل حركة التعاملات التجارية بين إيران ومعظم الشركات الكبرى المستثمرة فيها؛ والتي سيكون عليها تعليق اتفاقاتها ومعاملاتها مع إيران تجنبا للعقوبات الأمريكية عليها في حالة استمرار تعاملها مع الجمهورية الإسلامية، وهذا يعنى ببساطة خسارة إيران لأكبر ميزات الاتفاق النووي، وهو ما يعنى أن استمرار إيران في الالتزام بالاتفاق في هذه الحالة هو بمثابة تأدية واجبات بدون أي حقوق؛ وفي المقابل لن يكون بوسع الأوروبيين توفير أي بدائل عملية لإيران نظرا لمحدودية القدرة الاقتصادية لمنطقة اليورو أمام دولار الولايات المتحدة الأمريكية الذى يحتكر جل المعاملات التجارية العالمية؛ وتسعر به كل فواتير الطاقة العالمية؛ إضافة إلى ذلك ارتباط جل الشركات الأوروبية بالبنوك وبالاقتصاد الأمريكي مما يجعل من المستحيل على الاتحاد الأوروبي مقاومة العقوبات الأمريكية المشددة التي فرضها ترامب على إيران؛ وكذلك محدودية التأثير السياسي الأوروبي على الادارة الأمريكية، والذى تجلى في عدم قدرة زعماء أوروبا الوازنين من ثنى ترامب عن خطوته رغم المحاولات المضنية لهم حتى الساعات الأخير من توقيعه عن الانسحاب.

وتشكل الخطوة الأمريكية ضربة أخرى لإيران وهي في الحقيقة بمثابة تضييق الطوق حول عنقها، نظرا للتداعيات الاقتصادية التي ستترتب على الاقتصاد الايراني؛ والذى لم يكن قد تعافي بعد من قرابة أربع عقود من العقوبات التي كانت قد رفعت لتوها قبل أقل من عامين، وليجد نفسه اليوم أمام عقوبات أمريكية أشد قسوة، وإذا ما أضفنا للمشهد حالة التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد الوجود الايراني في سوريا؛ والذى كان آخره غارة على موقع اتصالات عسكري إيراني قرب العاصمة السورية عقب الإعلان الأمريكي بأقل من ساعتين؛ فإن إيران اليوم تبدو في مواجهة مفتوحة مع أعدائها القريب منهم والبعيد، وتبدو الخيارات الإيرانية أمام هذه المواجهة خيارات محدودة، فانسحاب إيران من الاتفاق النووي قد سيؤدى إلى عودة الأمور فيما يخص البرنامج النووي إلى نقطة الصفر، وهو ما يعنى أن أي اتفاق جديد في ظل إدارة ترامب لن يعطيها ما يوفره الاتفاق الحالى؛ خاصة فيما يخص حق إيران في امتلاك المعرفة النووية.

وكذلك الانسحاب الإيراني من الاتفاق سيعنى تحويل العقوبات الأمريكية إلى عقوبات دولية على الصعيد العسكري، ولن يكون بمقدور إيران فتح جبهة مباشرة مع إسرائيل أو حتى مع دول الخليج نظرا للكلفة الباهظة لذلك؛ كما وأن إدارة حرب بالوكالة عبر الجبهة السورية أو حتى اللبنانية لا يبدو بالأمر السهل نظرا لأن الأمور على كلا الجبهتين لم تعد كما كانت في العام 2006، فالجبهة السورية اليوم محكومة بلاعب دولي هو روسيا؛ وأي تصعيد هناك مرتبط بالأساس بقرار سيد الكرملين؛ وهو خاضع في الأساس لتفاهمات دولية بين روسيا والولايات المتحدة ضمن حسابات المصالح الإمبراطورية لكلا القوتين، والتي من الواضح أن خطوتها العريضة قد رسمت وهو ما يتضح من حالة اللامبالاة الروسية تجاه الغارات المتلاحقة على مواقع التواجد العسكري الايراني في سوريا، والتي كان أضخمها الهجوم على حماة قبل أسبوع وأحدث زلزال بقوة 22.، مما يعنى أنه لم يكن قصفا تقليديا بالمطلق، وأن القنابل التي ألقيت كانت بمثابة قنابل نووية مصغرة، ورغم ذلك لم تنبس روسيا بحرف في حالة تأييد صامت لما يجرى مع تواصل التنسيق الروسي الإسرائيلي على قدم وساق، والذى سيتوج غدا بلقاء بوتين مع نتنياهو في موسكو، وهو ما يشي أن وراء الأكمة ما وراءها وأن الروس باتوا يضيقون ذرعا بالوجود الايراني العسكري في سوريا؛ خاصة بعدما استوفي دوره في حسم المعركة مع الميلشيات المسلحة هناك، وانتقل من دور الحليف إلى دور المنافس، وهو ما يعنى أن فتح جبهة مع إسرائيل بالوكالة عبر الحدود السورية سينطوي على مخاطر مصيرية على التواجد الايراني في سوريا، أما جبهة لبنان فتبدو الحالة بأصعب من سوريا مع تحول حزب الله لشريك سيأسى رسمي لبناني، وهو ما يعنى أن أي تصعيد على جبهة الجنوب سيطال كل لبنان دون أي تمييز، وستكون مغامرة خطيرة لحزب الله لن يكون بمقدوره تحمل عواقبها.

وأمام هذا المشهد السياسي الأصعب.. فليس أمام إيران الكثير من الخيارات فهي في موقف سياسي صعب، وهي تدرك أن أعدائها يريدون منها أن تتقدم إلى الأمام حيث المواجهة والفخ المنصوب، أو أن تتراجع إلى داخل حدود إيران، لكن الرد الإيراني على الخطوة الأمريكية وردة الفعل على الغارات الإسرائيلية على مواقعها في سوريا تشير إلى أن إيران ستتراجع إلى الخلف خطوات، لكنه لن يكون إلا تراجع تكتيكى حتى تمر العاصفة.

* أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
Political2009@outlook.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق