ما هي المواصفات الخاصة بالتنظيم المرجعي لإدارة الحكم، وما يمكن ملاحظته في نظام الحكم الديمقراطي القائم في العراق، حتى يمكن تحميل المرجعية الدينية كامل المسؤولية عما يجري، وايضاً ما يجب فعله لإخراج الشعب العراقي من الحالة الضبابية القاتلة التي ألمّت برؤيته السياسية؟
"علي وياك، علي..."!، انه شعار جديد بمفرداته اللغوية، قديم بمحتواه العقائدي، بعد: "ما كو ولي إلا علي ونريد قائد جعفري" الذي رددته شريحة من الجماهير –وليس كلها- في العهد الصدامي، وفي مناسبات عدّة، واذا كان الشعار الاخير مطلبياً وحمل الروح المعارضة والتغيير، وأطلق ليصل الى اسماع الحاكمين أيام زمان، فان الشعار الأول والسائد حالياً، يتغنّى به الكثيرون لإيصال إيقاعاته الى أذان هذا الوزير او ذاك النائب في العراق الديمقراطي.
وبالمحصلة؛ فان تصور الناس أنهم بهذا الهتاف يوجدون الرابط المقدس بين من انتخبوهم وصاروا نواب ووزراء و رؤساء، وبين القيم والمبادئ التي يؤمنون بها بالنظر لوجود الرمز الخالد المجسد لهذا القيم والمبادئ (الإمام علي، عليه السلام)، والتي تمثلها اليوم المرجعية الدينية النائبة عن شخص الإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه.
لم يحصل شيء من هذا مطلقاً، بيد أن الجماهير التي تأخذ مكان القاعدة في الهرم القيادي دائماً، لم تجد خشبة للخلاص من المفاسد والمظالم والانحرافات التي لا تُعد في العراق، وجدت نفسها مضطرة للتشبث بخشبة المرجعية الدينية حتى لا تبتلعها أمواج الفتن السياسية والتجاذبات الداخلية والخارجية فتخسر آخر رمق في كيانها، ما تريده الجماهير تحديداً من المرجعية الدينية في هذه البرهة الزمنية بالذات، ولم يبق من موعد الانتخابات البرلمانية سوى ثلاثة أيام – من تاريخ كتابة هذه السطور- هو كبح جماح الاحزاب السياسية المهيمنة على مفاصل الدولة والقابضة على عوامل القوة من؛ مال وسلاح وإعلام، وهذا ممكن جداً، بل ويحصل كلمح البصر بشرط أن تكون هذه الاحزاب والمؤسسات الدستورية ومرافق الدولة الاخرى، ضمن الهرم القيادي المرجعي وليس الهرم القيادي السياسي المعمول به في أي مكان بالعالم.
الشهيد والمفكر الاسلامي آية الله السيد حسن الشيرازي، بين لنا وللأجيال مواصفات الهرم القيادي المرجعي في كتابه القيّم "كلمة الإسلام" ويتشكل من:
"أولاً: "القمة، وتتمثل في المرجع الأعلى للمسلمين، الذي يكون فقيهاً جامعاً لمؤهلات المرجع الديني.
ثانياً: الجهاز، ويتألف من إدارة عليا يرأسها نفس المرجع الأعلى، وتنعقد في مقره، وتوزع على أعضائها الاعمال الرئيسية، وهي تؤدي دور "مجلس الوزراء" في إيصال المعلومات الى المرجع ومناقشتها معه، وتلقي الاتجاهات والأوامر منه، ثم تعكس ذلك على الأمة... ومن "أعضاء" يُعبر عنهم بـ"الوكلاء" يوظفون في كافة المناطق التي يعيش فيها المسلمون، وهم يقومون بدور رؤساء الوحدات الادارية – باختلاف مدى ونوعية الصلاحيات الممنوحة- فيقومون بتنظيم شؤون المسلمين وتنفيذ أوامر القيادة فيها، وجباية الضرائب الاسلامية من المسلمين وتحويلها الى المرجع واسترداد كمية محدودة من الميزانية العامة لتوزيعها على الفقراء وتصريفها في المشاريع الاسلامية –التي يوافق عليها المرجع- والقيام بعمليات التوجيه والتثقيف للأمة، والاشتباك مع عناصر الشر المتطاولة على مقدسات الامة والاسلام، ورفع المعلومات الكافية عن منطقته، واستمداد المساعدة المعنوية منه.
ثالثاً: القاعدة وهي: مجموعة الامة التي تقلد ذلك المرجع وتأخذ عنه دينها في كافة الاحوال الشخصية والاجتماعية، وتطيع أوامره ونواهيه، وبعملية "التقليد" يرتبط كل مسلم بشخص "المرجع الاعلى" دون أيما وسيط، و"الوكيل" لا يزاحم هذا الارتباط المباشر، لكنه يكون كالبريد بين شخصين لإحاطته بفتاوى المرجع...".
ثم يبين الشهيد الشيرازي مزايا هذا "التنظيم المرجعي" بانه يحقق للأمة ما يلي:
"أولاً: الحصانة من الانشقاقات الداخلية، وتحولها الى كيانات منحازة تبعث على اشتباكات دائمة في صميم الامة.
ثانياً: مناعة الامة من تسلل الاتجاهات الاجنبية عن واقع الاسلام، وواقع الامة في حركاتها التصاعدية التوسعية، وتوتير الإيمان في النفوس باسم الإيمان.
ثالثاً: صيانة الامة من تطفل القيادات الكاذبة عليها، واستنزاف امكاناتها لإرواء الرغبات الشخصية، وتأييد السلطات المحلية والاستعمارية.
رابعاً: حفظ وحدة الاسلام، ووحدة الامة، ووحدة الكلمة الاسلامية، حتى لا يتجزأ الاسلام الى ألف إسلام، والأمة الى ألف أمة، والكلمة الاسلامية الى الف كلمة اسلامية... فلا تكثر المذاهب والطوائف، والاحزاب، بل يبقى الاسلام واحداً، والامة واحدة، والكلمة الاسلامية واحدة أبداً".
فهل من هذه المواصفات الخاصة بالتنظيم المرجعي لإدارة الحكم، ما يمكن ملاحظته في نظام الحكم الديمقراطي القائم في العراق، حتى يمكن تحميل المرجعية الدينية كامل المسؤولية عما يجري، وايضاً ما يجب فعله لإخراج الشعب العراقي من الحالة الضبابية القاتلة التي ألمّت برؤيته السياسية؟
الملاحظ اليوم، وربما يستمر الأمر لما بعد الانتخابات، أن ثمة جهات تدفع بالمرجعية الدينية الى "الجدار الأخير" بدلاً من أن تكون في مكانها الصحيح بالقمة، وخلق الصورة السوداوية أمام الشعب العراقي، بحيث لا بصيص نور وأمل من الاحزاب السياسية لما أوغلت فيه من الفساد المريع، ولا من الاعلام، لما لوثته الفضائح النتنة والتشهير والتسقيط، وحتى شرائح يعتمد عليها مثل؛ العشائر والاكاديميين والتجار، فقد ابتعد البعض بشكل مؤسف عن الجماهير مفضلاً البحث عن المكاسب والامتيازات، الى درجة أن بلغ الحضيض بكل هؤلاء، أن لا يخشون زخات المطر مما هم عليه من البلل – كما يقول المثل العراقي- مهما كانت الانتقادات لاذعة مع براهين وأدلة دامغة.
إن السياسيين – إن صحّ هذا الوصف على الحزبيين والفئويين الموجودين في العراق- هم من يتحمل المسؤولية الكبرى عما يعانيه العراقيون من أزمات ومحن في المجالات كافة، فهم من بدأوا المشوار (الديمقراطي) وعليهم المواصلة بالإصلاح والتغيير بما يستطيعون بالاستفادة من الدورة الانتخابية الجديدة، بمعنى؛ أن دائرة الإصلاح والتغيير محصورة بين جماهير الشعب وبين الحكومة ومعها قمة السلطة، استناداً على النمط المتبع حالياً في العراق والذي تنبأ به الشهيد الشيرازي قبل اكثر من خمسين عاماً، وهو الهرم القيادي المتكون من الزعيم او رئيس الجمهورية، ثم "الجهاز" ويمثل اليوم السلطات الثلاث؛ التنفيذية والتشريعية والقضائية، ثم القاعدة الجماهيرية التي يطوّعها هذا الزعيم من خلال هذه السلطات وبالاستفادة من القدرات المالية والاعلامية والامنية والعسكرية ويحقق لنفسه وجماعته ما يريد.
وقبل ان تتحول هذه الدائرة الى دائرة صراع ومواجهة عنيفة –لا سمح الله- ينبغي استشعار الخطر المحدق بسرعة فائقة من أهل الحكم في بغداد، ثم من جماهير الشعب، والكفّ عن حالة التنصّل عن المسؤولية والتبرؤ من الهزائم والاخطاء.
اضف تعليق