وسائل الإعلام التركية كشفت عن اتصالات محمومة تجري في أوساط أحزاب المعارضة الرئيسة للتوحد خلف مرشح قوي واحد، فيما المصادر السياسية والديبلوماسية المهتمة في المنطقة، لا تستبعد انخراط عواصم إقليمية ودولية في حث المعارضة على التوحد، فكثير من هذه العواصم التي ترتبط بمصالح استراتيجية مع تركيا...
يبدو أن زعماء كثيرين في منطقة الشرق الأوسط، وربما في العالم، بدأوا بضبط ساعاتهم على توقيت الانتخابات التركية، البرلمانية والرئاسية المبكرة، المقررة في الرابع والعشرين من حزيران/يونيو المقبل... المعركة الانتخابية المحتدمة التي أرادها أردوغان قبل موعدها بعام، ربما تكون "فاصلة"، سواء بالنسبة لمستقبل تركيا أو لجهة مصيره الشخصي كثاني أهم زعيم سياسي تركي منذ إعلان الجمهورية قبل ما يقرب من المائة عام، ورحيل مصطفى كمال أتاتورك.
وثمة إجماع بين المراقبين الأتراك بأن حليف الرئيس أردوغان، زعيم الحركة القومية دولت بهشتلي، ما كان له أن يتقدم باقتراح تبكير الانتخابات من دون ضوء أخضر، أو حتى طلب مباشر، من أردوغان، حيث تُجمع المصادر المؤيدة للحزب الحاكم والمعارضة له، على أن الزعيم التركي استعجل الانتخابات، خشية استمرار التآكل في شعبيته، مع استمرار تدهور سعر صرف الليرة، وتواتر التقارير عن أداء متعثر نسبياً للاقتصاد التركي خلال العامين المقبلين، وأن الرجل يريد الاستثمار في "نصر عفرين" وتوظيفه في المعركة الانتخابية، مع أن كثيرين باتوا يعتقدون أن تراجع أردوغان عن اجتياح "منبج" وشرق الفرات، ووقوفه عاجزاً عن تنفيذ وعوده وتهديداته "النارية"، أثرا على صورته وهيبته، وقد يسهمان في إضعاف فرصه وحظوظه في الانتخابات المقبلة.
والحقيقة أن السياسة الداخلية التركية تطورت خلال السنوات العشر الفائتة، على نحو مثير للاهتمام، ونادر الحدوث في تجارب الديمقراطيات المستقرة والناشئة على حد سواء... فنحن أمام حزب ذي مرجعية إسلامية، وزعيم "شعبوي"، فازا في كل انتخابات خاضاها طوال أزيد من خمسة عاماً، ولم يسجلاً خسارة واحدة على الإطلاق، لكن المفارقة تتجلي في المقابل، بوجود فئات وشرائح واسعة من الأتراك، تقف على الطرف الآخر من المعادلة، ولا تحتفظ بأية مشاعر ودية حيال الحزب وتجاهر برفضها وخوفها من عودة الديكتاتورية وحكم الفرد... "في تركيا أنت مع أردوغان أو ضده، أما المساحة الرمادية، فلا يشغلها سوى عدد قليل من الأتراك"، هكذا يلخص أحد الأصدقاء الأتراك المشهد عشية الانتخابات.
وإذ تكشفت نتائج الاستفتاء الشعبي على دستور تركيا الجديد، الذي نقل نظامها السياسي من برلماني إلى رئاسي، مطلق الصلاحيات، عن "توزان دقيق" للقوى بين الحزب الحاكم وحلفائه من جهة ومعارضيهم من جهة ثانية (فاز الدستور بـ 51 بالمائة من الأصوات فقط)، فإن الاستطلاعات الأخيرة للرأي تشير إلى أن شعبية أردوغان، باتت تراوح ما بين 40 – 45 بالمائة، وهي مرشحة لمزيد من الانخفاضات المتلاحقة، إن استمر التراجع في سعر صرف العملة الوطنية، وإن بقيت القوات التركية أسيرة "انتصارها التكتيكي" في مقاطعة عفرين شمال غرب سوريا.
لكن ذلك، لا يعني أن المعارضة أفضل حالاً من الحزب الحاكم، وأن حظوظها بالفوز أعلى من حظوظه... فهذه المعارضة منقسمة على نفسها، ومن الصعب أن تتفق على مرشح قوي واحد، يستطيع مزاحمة أردوغان، والحيلولة بينه وبين تمتعه بالصلاحيات الاستثنائية التي كلفها الدستور الجديد لرئيس البلاد، والتي تمت صياغتها، بتدخل شخصي مباشر، وثقيل، من قبل أردوغان، كما تشير لذلك كافة الدلائل، بل ويمكن الجزم من دون تردد، بأن ما من حزب تركي معارض سيكون بمقدوره التقدم منفرداً بمرشح قادر على منافسة أردوغان، أو يحظى بشعبية تقارب شعبيته.
وسائل الإعلام التركية كشفت عن اتصالات محمومة تجري في أوساط أحزاب المعارضة الرئيسة للتوحد خلف مرشح قوي واحد، فيما المصادر السياسية والديبلوماسية المهتمة في المنطقة، لا تستبعد انخراط عواصم إقليمية ودولية في حث المعارضة على التوحد، فكثير من هذه العواصم التي ترتبط بمصالح استراتيجية مع تركيا، وتريد علاقات تعاون وطيدة معها، لديها مشكلة مع أردوغان تحديداً، بما هو شخصية "شعبوية"، "انفعالية"، "تسلطية"، "سليطة اللسان"، وليس لها مشكلة مع تركيا، أو حتى مع حزبها الحاكم، برغم خلفيته الإسلامية.
والمفارقة الثانية في السياسة التركية، أن الذين ينتظرون بفارغ الصبر، ترجل الزعيم التركي عن حصانه، هم معظم قادة المنطقة والعالم تقريباً، ومن معسكراتها ومحاورها المتناحرة... فالرئيس السوري بشار الأسد، يحتفظ بخصومة شديدة مع أردوغان منذ اندلاع الأزمة السورية، تشاطره الموقف ذاته كل من إيران والعراق، على الرغم من نجاح البلدين في احتواء خلافاتهما مع أنقرة... وتحتفظ مصر والسعودية والإمارات والبحرين بعلاقات متوترة مع تركيا، مرجعها "أسلوب أردوغان" في إدارة ملفات السياسة الخارجية ونزعته "التدخلية"... ومعظم عواصم الغرب (بما فيها واشنطن) فضلاً عن إسرائيل، لا تبدي ارتياحاً لأداء الرجل وسيل خطاباته وتصريحاته الذي لا ينقطع... ومن الصعب معرفة حقيقة الموقف الروسي من التغيير في حال حصوله، سيما وأن الرئيس التركي، لطالما ترك موسكو في حيرة من أمرها، أما العواصم التي ستفتقده إن أخفق في الحصول على ولاية جديدة، فقد لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة، تأتي الدوحة في صدارتها، واستتباعاً جماعة الإخوان المسلمين، ذات النفوذ الشعبي الواسع في المنطقة العربية.
بازار الأسماء المرشحة لمنافسة أردوغان، افتتح بقوة في الأيام الأخيرة، يأتي في مقدمها، صديق أردوغان ورفيق دربه عبد الله غول، الذي تخلى عنه وقذف به إلى دائرة الترك والنسيان، وهناك زعيمة حزب الخير التركي الجديد ميرال أكشينار، المنشقة عن الحركة القومية، والمدعومة من حزب الشعب الجمهوري، وزعيم حزب الشعوب الديمقراطية السجين صلاح الدين ديمرطاش، وهناك شخصيات أقل حظوة، يجري تداولها من باب استعراض الفرص أو ربما اختبار ردود الأفعال.
على أن أوساطاً سياسية تركية عديدة، تعتقد أن ثمة مرشح واحد، بمقدوره أن يكون مرشح الـ 49 بالمائة الذي عارضوا الاستفتاء على الدستور الجديد على حد تعبير الزعيم السابق لحزب الشعب الجمهوري دينيز بايكال، وعنى به عبد الله غول، وهو وحده بمقدوره أن يجمع رايات أحزاب أربعة معارضة خلف حملته الانتخابية: حزب الخير المنشق عن الحركة القومية، حزب الشعب الجمهوري، حزب الشعوب الديمقراطية (الكردي) وحزب السعادة (الإسلامي) الذي يعد امتداداً لحزب الرفاه بزعامة الراحل نجم الدين أربكان، رئيس الوزراء الأسبق، والأب الروحي لرجب طيب أردوغان... كما أن غول، وحده، من بمقدوره أن يزاحم الزعيم التركي على تأييد قواعد حزب العدالة والتنمية وناخبيه، وجمهره عريضة من قيادات الحزب ومؤسسيه ممن قذف بهم أردوغان، إلى خارج الحلبة السياسية، في رحلة صعوده المكلفة إلى قمة هرم السلطة.
اضف تعليق