ان المتغيّر الجيوسياسي الدولي، فرض معطياته على الجميع، وآن الاوان لانهاء التوتر الذي عاشته شبه الجزيرة وشعبها منذ سبعة عقود، من دون ان يقرر ذلك. المؤكد ان المستقبل كفيل بكشف الحقائق، وهو ما يحصل عادة...
ينقل عن نابليون قوله "ما القدر؟ انا القدر!" واذا كانت هذه المقولة تعكس غرور هذا الرجل الطموح واعتداده المفرط بنفسه، فانها ايضا تعكس خللا في وعيه لطبيعة السيرورة التاريخية، التي تضع الكثير من الناس امام اقدار لا يصنعونها بانفسهم، وانما وجدوا انفسهم في خضمها، وان قيمة ما يقدمونه يبقى في كل الاحوال رهن تداعيات هذه المشيئة، التي تقررها ظروف متداخلة كثيرة، يعجز أي انسان فرد ان يغيرها، خارج الجهد الجمعي الذي يتصيّر من رحمها، حتى اذا كان نابليون نفسه. فنابليون الذي اصبح الاسم الابرز في تاريخ فرنسا الحديث، كان من الممكن ان يبقى مغمورا، لولا الثورة الفرنسية التي اندلعت وهو في العشرين من عمره، فهيأت له الظروف وهو في قمة عنفوانه، ليكون في مقدمة رموزها بعد ان بات الواقع السياسي رجراجا، يسمح لمغامرين امثاله ان يصنعوا اقدارهم الخاصة فيه.
من يتابع رحلة شبه الجزيرة الكورية، منذ مطلع القرن الماضي الى اليوم، يطّلع على حقيقة مهمة، هي ان الشعوب، ليست دائما قادرة على صناعة اقدارها والتحكم برحلتها وفقا لما ترغب او تتمنى، لان عوامل موضوعية عدة، تتحكم بإيقاع حراكها وتضبط مخرجاته ايضا. ففي العام 1910 احتلت اليابان رسميا، امبراطورية كوريا الموحدة، وقتذاك، وخلعت الامبراطور وضمتها الى مستعمراتها. وفي اواخر الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في العام 1945 اجتمع الثلاثة الكبار في العالم، روزفلت وستالين وتشرشل، على وقع اللحظات الاخيرة للإطاحة بالنازية والفاشية اليابانية، لكنهم يدركون ان مشاريعهم العقائدية والسياسية متناشزة، وكان لا بد من ايجاد تفاهمات تحول دون الصدام لاحقا. فكانت كوريا، المستعمرة اليابانية التي ستتحرر، في قلب اللعبة الجديدة لاهميتها الجيوسياسية للجميع. فالقادة الكبار الثلاثة، بعد ان عقدوا اجتماعهم الشهير في مدينة يالطا بالقرم السوفيتية، اتفقوا على ان يكون دخولهم شبه الجزيرة محسوبا بدقة، بما يضمن لطرفيهما حصة متساوية فيها، أي ان يكون للسوفييت ومن معهم من الرفاق الشيوعيين الكوريين، القسم الشمالي، الذي يصلون فيه حدا لا ينبغي لهم تجاوزه، والامر كذلك مع الاميركان الذي دخلوا ومن معهم من الجنوب، ووقف الجيشان (المحرران) عند المنتصف، وكانت تلك لحظة قدرية لم يقررها الشعب الكوري، الذي ابتهج بزوال كابوس الاحتلال الياباني ليجد نفسه امام مستقبل غامض، حين اكتشف انه صار مقسّما عمليا.
في تلك السنين العاصفة من تاريخ العالم، حصل الحدث الابرز في القارة الاسيوية. لقد انتصر الشيوعيون الصينيون، بقيادة الزعيم ماو تسي تونغ، على الكومنتاج او الحزب القومي الصيني وطردوا قادته الى جزيرة تايوان الصينية، وكان من سوء قدر الكوريين، ان زعيم الحزب الشيوعي الكوري، كيم ايل سونغ، قريبا من الصينيين وعقيدتهم الشيوعية المستلهمة لطروحات تروتسكي، القائلة بضرورة الكفاح المسلح او الثورة الدائمة حتى تحرير الارض واقامة العالم الشيوعي على انقاض الرأسمالية.
لم يعلم ماو تسي تونغ ورفاقه الراديكاليون، ان الكبار تفاهموا على تقاسم النفوذ في العالم، وان لعب الازرار النووية ليس كلعب حرب العصابات، وان العالم وقف على حقائق جديدة، افرزتها الحرب العالمية الثانية، اسمها توازن الرعب، ولا بد من التعاطي مع هذه الحقيقة بجدية، بعيدا عن أي نزق سياسي او حماسة عقائدية.
مطلع الخمسينيات، وعلى خلفية قرار مجلس الامن، انسحب الاميركان من الجنوب الذي استقر تحت هيمنتهم وفقا للاتفاقات السرية. وبالتزامن مع انسحاب الروس من الشمال، الذي شغله رفاقهم بزعامة كيم ايل سونغ، استثمر الصينيون الفرصة او هكذا توهموا، فدفعوا برفيقهم الشمالي الى الجنوب غازيا ليوحد البلاد تحت العلم الاحمر. لكن هذه المغامرة المرعبة، التي دخلت التاريخ باسم "الحرب الكورية" انتهت بنحو خمسة ملايين ضحية من الجانبين وحلفائهم، وكان حضور الروس الى جانب الشماليين محدودا ومحسوبا، لعدم قناعتهم بما قام به رفيقهم كيم ايل سونغ، ولكي لا يفقدوا بريقهم الثوري في نظر اليسار العالمي، لكن الحرب انتهت بالمتفق عليه مسبقا، أي لا غالب ولا مغلوب، وبقي الخط الفاصل بين الجانبين، يعكس حقيقة اللعبة التي لم يعرفها الصينيون الا بعد عقود، او بعد ان غادرتهم الحماسة الثورية، وصاروا يتعاملون مع الامور بواقعية، ليبدأوا نهضتهم الكبرى بعد رحيل ماو تسي تونغ، منتصف السبعينيات.
تغيّر العالم بعد انهيار المعسكر الشيوعي، لكن الكوريين الشماليين بقوا على ثقافتهم، او اريد لهم ذلك، لاعتبارات تكتيكية، يعرفها الصينيون والروس، وربما يدفعون باتجاهها لاحراج الغرب واميركا تحديدا، لاهمية موقع كوريا الشمالية وقربها من مواقع عسكرية اميركية، صارت مهددة بالصورايخ الكورية الشمالية اثناء الازمة الاخيرة بينها وبين اميركا. ودخل العالم مرحلة من الرعب بعد ان تحدث الرئيسان الاميركي والكوري الشمالي، عن الازرار النووية، وصار لا بد من الانتهاء من هذه اللعبة الخطرة، ولا بد من انهاء الحصار على كوريا النووية الجائعة.
فهل حصلت تفاهمات روسية صينية مع الاميركان، لايجاد صفقة تطوي هذا الخلاف الذي قد يخرج عن سيطرة الجميع في لحظة جنون، بعد ان كاد هذا يحصل مؤخرا، ولو بالحرب الكلامية؟
نعتقد ان المتغيّر الجيوسياسي الدولي، فرض معطياته على الجميع، وآن الاوان لانهاء التوتر الذي عاشته شبه الجزيرة وشعبها منذ سبعة عقود، من دون ان يقرر ذلك. المؤكد ان المستقبل كفيل بكشف الحقائق، وهو ما يحصل عادة.
اضف تعليق