في العراق يبدو الامر كثير الشبه بألمانيا، لكنه يختلف معه في حجم الجريمة ومساحتها، فالحكم الديكتاتوري الذي تربع على عرشه صدام حسين، جعل البلاد عبارة عن سجن كبير لا يتحدث فيه الناس الا فيما يرضي شهوة السلطة، وهي شهوة لا تتعدى الحصول على تاييد مطلق لسياساتها حتى وان عاش الناس في ابنية الصفيح...
في غُرفة زجاجية مُغلقة داخل متحف الشمع بالعاصمة الألمانية برلين، وعلى عكس كافة تماثيل الشخصيات الألمانية والعالمية الطليقة داخل المتحف، يقبع هتلر اليوم محبوسًا خلف الزجاج، حيث تنبه لافتة صغيرة أمام الغرفة الزجاجية الزوار إلى عدم التقاط الصور معه؛ لكيلا يجرحوا مشاعر البعض.
يقول تقرير لموقع "ميدان" ان الألمان يشعرون بالحرج منه حتى في صورته الشمعية على ما يبدو، ويعاقبونه بالحبس حتى بعد انتحاره بعقود طويلة، وهو عقاب يناله جزاء جريمته البشعة: البحث عن المجد والإمبراطورية للشعب الألماني.
لم يسبق وأن جلدت مدينة ذاتها مثلما فعلت برلين، فمتاحف المدينة ليست مخصصة لاستعراض أمجاد الألمان كما هي عادة متاحف معظم البلدان، بل تنصب على عرض حياة ضحاياهم حين سعوا نحو المجد مثلهم مثل غيرهم من دول أوروبا، لا سيّما ضحايا هتلر والرايخ الأخير، فهنالك متحف مخصص لليهود بقاعة رمادية كئيبة وضخمة تماثل الأماكن التي احتُجِزوا فيها قبيل الهولوكوست، ومن ثم تحاكي نفس أحاسيسهم بين الزوار، ومتحف آخر لليهود المقتولين في الحرب العالمية الثانية فقط، بل ومتحف آخر مخصص لأنّا فرانك اليهودية ضحية الهولوكوست.
لا تقتصر المتاحف على ضحايا الألمان في الماضي، في نوع من أنواع استدعاء تأنيب الضمير، وتوبيخ أي ألماني تسوّل له نفسه البحث عن أمجاد الماضي المستَنَكرة على نطاق واسع، بل وتشمل أيضًا إبداء التقدير لمن احتل ألمانيا وحاربها ليوقف عجلات توسّعها أثناء الحرب العالمية الثانية، سواء من احتلها من الغرب كالأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين، ولهم متحف مخصص يستعرض مساهماتهم لألمانيا الغربية وتعزيز الحريات فيها، أو الروس ممن احتلوها قادمين من الشرق، ولهم متحف أيضًا مخصص للعلاقات الألمانية الروسية. بحسب تعليق "موقع ميدان".
يعيش الألمان باستمرار وفوقهم سحابة إرث نازي ثقيل تنبهّهم دومًا إلى عدم السقوط في مستنقع الأيديولوجيا القومية، بل وتُجبرهم على احترام مُحتلّيهم ممن يدينون لهم بوقف زحف أسلافهم الألمان أنفسهم، وعلى غرار انضباطهم المعروف عنهم في الأعمال والمصانع وغيرها، هنالك انضباط مشابه في مجال الخطاب السياسي يحرُم معه بأي شكل استدعاء ذكرى هتلر أو الإشارات العنصرية لأي شعب -واليهود بشكل خاص- أو تمجيد العرق الألماني لأي سبب كان، ولعل المناسبة الوحيدة التي كسرت ذلك الحاجز النفسي بين الألمان وإطلاق العنان لبعض مشاعر الانتماء الوطني كانت فوزهم بكأس العالم عام 2014.
يستمر تقرير "ميدان" في سرد الواقع الألماني القائم على فكرة "الاعتذار" عما تسبب به أبناء جلدتهم من جرائم بحق البشرية، لكنه يعرج على تحول هذه الحالة الى ردة فعل مضادة أحيت التطرف في البلاد وصعود القوى اليمنية المتطرفة.
في العراق يبدو الامر كثير الشبه بألمانيا، لكنه يختلف معه في حجم الجريمة ومساحتها، فالحكم الديكتاتوري الذي تربع على عرشه صدام حسين، جعل البلاد عبارة عن سجن كبير لا يتحدث فيه الناس الا فيما يرضي شهوة السلطة، وهي شهوة لا تتعدى الحصول على تاييد مطلق لسياساتها حتى وان عاش الناس في ابنية الصفيح، وأصبحت أجهزة التبريد عبارة عن "سعفة نخيل" يتم نسجها يدويا، اما الحصول على اخر ما توصل اليه العالم فهو ترف لا فائدة من التفكير به لان ممارسته تعني دخول السجن او الاستعداد لحكم الإعدام، اذ ان ابسط الأشياء كانت ممنوعة من بينها استخدام أجهزة الاستقبال التلفزيوني الفضائي "الدش"، كما ان الهاتف المحمول لم يكن غير موجود فقط انما لم نفكر به مطلقا، والأموال تذهب لتصنيع الصواريخ لحماية "البوابة الشرقية" للعرب!
الفرق الحزبية هي المكان المفضل لجلد أي مواطن يعارض هذه الأوضاع السيئة، كما ان دوائر الدولة كلها تحولت الى فرقة حزبية، وكان عدي ابن صدام حسين يزور الجامعات العراقية من اجل اختيار ما يحلو له من الفتيات ليمارس معهن الجنس بدون ان يكون لهن أي راي في الرفض او القبول، بحسب ما تقول الكثير من روايات شهود العيان في ذلك الوقت.
قصور صدام وكل المؤسسات التابعة لحزب البعث في ذلك الزمن كانت هي الاجمل من حيث البناء المعماري، والنظام الحاكم يعطيها الأولوية على كل المشاريع، لكنها في المقابل كانت تمثل السجن الحقيقي لكل مواطن لا يعجبه الوضع القائم، ويتحدث الناس عن سراديب اسفل هذه البنايات الجميلة تلتهم الناس يوميا.
بعد سقوط النظام البعثي، انكشفت الكثير من الحقائق، التي كانت غائبة بفعل الماكنة الدعائية الضخمة والسيطرة المطلقة على وسائل الاعلام، ويكفي شاهد واحد من قضاء المحاويل بمحافظة بابل، اذ احتوت مقابرها الجماعية على اكثر من خمسة عشر الف انسان عراقي، هم في الحقيقة من عارضوا النظام. انها شديدة الشبه بممارسات النازية التي حول الالمان اماكنها الى متاحف لاستذكار الجريمة.
المواقع العراقية التي كانت اماكن لاحتجاز الناس لم يتم الاستفادة منها لكشف الجريمة للأجيال اللاحقة، ولتاكيد ذاكرة "الاسى" في نفوس المواطنين، فركضت الأحزاب خلف الاستيلاء على القصور من اجل مليء الشاغر الذي احدثه صدام، ونسيت ان تحولها الى شواهد للأجيال القادمة على أسوأ مرحلة مرت في تاريخ العراق الحديث.
كان الأفضل ان يتم تحويل كل مراكز حزب البعث الى متاحف، تحتوي كل أدوات القمع والجريمة التي كانت تمارس بشكل رسمي ضد المواطنين، لان الانسان يميل بطبعه للنسيان، والا كيف يمكن لرئيس قبيلة ان يتفاخر بحنينه الى "عودة نظام البعث" بحجة ان الوضع الحالي بائس، وقد لاحظ هو بعينه كيف كان يساق الناس اجباريا لجبهات القتال، وكيف يمكن لشاب يافع ولد بداية الالفية الجديدة ان ينشر في مجموعة لطلبة الجامعات يترحم بها على صدام ونظامه الاجرامي.
ان من اكبر الأخطاء التي قامت بها الحكومات الجديدة هي اغفال عملية تحويل جرائم صدام الى ذاكرة دائمة، فنسي الناس تلك الجرائم، كما انها لم تعالج التعاطف مع حزب البعث بطريقة واضحة، فلا يمكن ان يتم الهتاف باسم رجل شهدت المحاكم العراقية والدولية على جرائمه، وليس من المقبول عدم تشريع قوانين تجرم رفع شعارات او صور حزب البعث الاجرامي.
اضف تعليق