شريحة كبيرة من ساسة اليوم الذين نشكو من فسادهم المالي وتكالبهم على السلطة بأي ثمن، وقد حذر علماؤنا الكرام قبل هذا بفترة طويلة من أخطر تحدي يواجه التغيير الحقيقي في الامة، ألا وهو استصحاب المسبقات الفكرية مع مراحل التغيير، وعدم مواكبة تطور المجتمع والامة ثقافياً وعلمياً ومعرفياً...
((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)) سورة البقرة- الآية،170.
في إحدى مكاتب الاحزاب العراقية بالعاصمة دمشق، في سنين التسعينات، كان يجلس أمامي أحد الرموز الحزبية الكبيرة، وقد تبوأ ذات مرة منصب نائب في البرلمان العراقي (الديمقراطي)، وكان يتحدث حول المنهجية الاعلامية لدى احزاب المعارضة، وكيف أنهم يكيلون التهم على رئيس النظام البائد (صدام) وأنه عميل، ثم أردف ساخراً: "ها نحن اليوم أكثر عمالة من صدام"، في إشارة منه الى هرولة الكثير من هذه الاحزاب على السفارات في دمشق للحصول على حفنات من الدولارات لانجاز اعمالهم (المعارضاتية)، بل وحتى تغطية تكاليف معيشتهم.
وعندما ناقشت إعلامي "أسلامي" في تلك الفترة في التعويل على الدعم الأميركي لتحقيق التغيير في العراق، أجاب بحماس مثير: "لك أن من ذهبوا للقاء مسؤولين اميركيين في وزارة الخارجية، وكيف انهم متفاعلون معنا في مشروع التغيير".
وقبلها بعقد كامل من الزمن، وتحديداً في ايران، شهدنا التهافت على منصب "الرئيس" في تجمع معارضاتي يفترض ان يمثل البديل لنظام صدام الديكتاتوري، وهكذا الأمثلة كثيرة لا تُعد عن الطراز الفكري السائد لدى شريحة كبيرة من ساسة اليوم الذين نشكو من فسادهم المالي وتكالبهم على السلطة بأي ثمن، وقد حذر علماؤنا الكرام قبل هذا بفترة طويلة من أخطر تحدي يواجه التغيير الحقيقي في الامة، ألا وهو استصحاب المسبقات الفكرية مع مراحل التغيير، وعدم مواكبة تطور المجتمع والامة ثقافياً وعلمياً ومعرفياً.
حقاً؛ لقد راعني قول أحدهم في عهد المعارضة، وكان خارج العراق، وهو يتحدث عن الطريقة الفضلى للتعامل مع العراقيين بـ "جوّع كلبك يتبعك"! وفي عهد الديمقراطية الحاكمة، وهو بين هؤلاء العراقيين يتحدث عن الفضل في إرساء قواعد الديمقراطية ومساعدته على أن يختاروا من يشاؤون من خلال الانتخابات.
إن الذي تصور بان له الحق في التسيّد والتحكّم على جماعة صغيرة، وفق ما تملي عليه ايديولوجيته الخاصة او حتى مصالحه الفئوية، يجد أن الواجب على الجماعة الكبيرة، مثل الشعب العراقي التصفيق له والثناء عليه اذا رشح نفسه لمنصب النائب او الوزير او الرئيس، ثم يكون هذا التصور خارج قواعد المسائلة الديمقراطية وحقوق الناس، فهي أمر آخر لا دخل له بحقّه هو في تسنّم منصبه.
ليس هذا وحسب، بل يشمل ايضاً التصرّف بالاموال والميزانية المفترض تخصيصها للبرامج التنموية والمشاريع الخدماتية وغيرها، فهو محق بكل الاحوال بأي نوع من التصرف، حتى وان شفط المليارات لتوسيع القاعدة الحزبية لجماعته، او حتى لتوسيع ثروته وامتيازاته الخاصة، وربما يكون في تصور البعض أن الحديث الشريف يشملهم: "اذا أصاب العالم فله حسنتان، وإن أخطأ فله حسنة واحدة"!
إن مشكلة استصحاب المسبقات الفكرية الخاطئة، ليست مقتصرة على التجربة الديمقراطية في العراق، فنحن لسنا اول الشعوب والأمم التي واجهت هذه المشكلة النفسية، ولكنها تجاوزتها ومضت في طريق التقدم والرقي، فهذا الشعب الالماني الذي آمن بفكرة الجنس الأفضل والأرقى في العالم وصاحب الحق المطلق للتسيّد على العالم، واختار بملء ارادته وفي اجواء ديمقراطية، الحزب الاشتراكي القومي بزعامة هتلر الذي تحول فيما بعد الى قائد يسيّر الجيوش الالمانية لتحقيق هذا الهدف الوهمي، وبعد فتح عينيه بعد انتهاء الحرب وشاهد حجم الكارثة المريعة، غير مجرى التفكير نحو الانتاج الأفضل والأرقى وإحياء تراث الثورة الصناعية الاولى، ومواجهة العالم بالمنتوجات الالمانية الراقية وليس بالسلاح والعنف والرعب.
أدرك الالمان وايضاً الاميركان وسائر الأمم الناهضة في العصر الحديث، حقيقة تطور الفكر الانساني وان البشر سائرون ابداً نحو التحديث في اساليب الحياة وطرق تحقيق الاهداف، ولذا نلاحظ التجديد المستمر في الفكر والثقافة لديهم، وحتى النظريات الكبيرة التي خطها الفلاسفة والمفكرون الذين يعتد بهم، فهي تطرح بين فترة واخرى على بساط البحث والمناقشة ليتحققوا من قدرتها على مواكبة التطورات الاجتماعية والسياسية، فالنظرية الاشتراكية التي تخلّى عنها الجميع، وأجروا عليها التعديلات الجذرية، لاحظنا النظرية الرأسمالية كيف أنها وضعت أمام المسائلة الاخلاقية خلال أزمات اقتصادية ضربت الغرب.
هذه الحقيقة الحضارية نقرأها في تجارب الشعوب والأمم، وقد سبق الى ذلك، القرآن الكريم قبل اكثر من اربعة عشر قرناً من الزمن، عندما حذر الأمم الطامحة للنهوض من مغبة التشبّث بالرواسب الفكرية المانعة من اكتشاف الحقائق والتقدم نحو الامام، وفي اكثر من آية تتحدث عن أقوام وأمم تمحورت مشكلتهم مع انبيائهم ورسلهم حول المسبقات الفكرية التي تحولت لديهم الى مسلّمات لا نقاش فيها حتى وإن فنّدها العقل والمنطق والوجدان، فكانوا يجيبونهم على تبشيرهم بالقيم السماوية، بأن "هل نترك ما كان يعبد آباؤنا..."؟ مما يكشف عن حجم المشكلة النفسية المتجذرة في الانسان، قديماً وحديثاً وصعوبة تخلصه من هذه الرواسب، بل والإصرار عليها احياناً، ثم يأتي القرآن الكريم بجواب منطقي لحلحلة هذه العقدة عندما يحاجج الانسان بأن {...أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}، فهل يقبل الواحد منّا التشبّث بأفكار الماضين حتى وإن كانت منافية للعقل والانسانية؟
اضف تعليق