القوة الصلبة فتجسدها قوات الحشد الشعبي العراقية وفيلق القدس وحزب الله وتلك هي القوى الفاعلة على امتداد هذا المحور؛ وهي قوة استطاعت إقصاء كل القوى المنافسة على الأرض؛ والتي كانت آخرها دولة داعش والجماعات السنية المعارضة في سوريا؛ ومن قبلها قوات البشمركة في الشمال العراقي...
ثمة حقيقة ماثلة أكدتها الضربة الأمريكية الفرنسية البريطانية على سوريا؛ وهو أن الغرب استطاع فتح ثغرة عميقة بين المصالح الروسية الاستراتيجية وبين مصالح حلفائها الإيرانيين والسوريين ممثلين في نظام الرئيس بشار الأسد، وأن روسيا لم تستخدم نفوذها الاستراتيجي الدولي كقوة عظمى في منع تلك الضربات؛ والتي نفذت دون أي غطاء من الشرعية الدولية؛ وهو ما يضع علامات استفهام حول سياسات التحالفات الروسية القديمة المتجددة لروسيا في الشرق الأوسط، فيما إن كانت امتداد لنفس سياسات التحالفات السوفيتية القديمة؛ والتي كانت دوما تحالفات تكتيكية قصيرة الأمد لخدمة المصالح السوفيتية الاستراتيجية دون المصالح الاستراتيجية لحلفائها، وهو ما ظهر في الصراع العربي الإسرائيلي خلال القرن الماضي؛ وأدى في نهاية المطاف إلى فقد العرب (الحليف الاستراتيجي للسوفيت في حينه) لتوازن القوة مع اسرائيل؛ وخسارة دول عربية لأراضيها مع خسارة ما تبقى من أراضي فلسطينية في حرب 67 والتي عرفت بالنكسة.
واليوم نحن أمام سيناريو جديد مشابه في سوريا؛ حيث تلعب إسرائيل والولايات المتحدة فيه نفس دورهما القديم؛ وفيه نجحت روسيا بتحقيق مصالحها الاستراتيجية والعودة مجددا إلى الشرق الأوسط عبر الأزمة السورية، وقد حصلت على حصتها في سوريا وذلك عبر ترسيخ وجودها العسكري في الساحل السوري بشرق المتوسط؛ علاوة على ترسيخ النفوذ المدني الروسي عبر استثمارات روسية مدنية وعسكرية مع النظام السوري في مشاريع استراتيجية طويلة الأمد يراد بها تحصيل القدر الأكبر من مشاريع إعادة إعمار البلاد مستقبلا.
وفي المقابل ثمة نفوذ إيراني مدني وعسكري موازي ومتحالف مع روسيا في تحالف مصالح مؤقت تتباين فيه المصالح الاستراتيجية لكلا الطرفين على المدى البعيد؛ فالروس على سبيل المثال لا يرون في الإسرائيليين عدوا استراتيجيا بقدر ما هو خصم يمكن التفاهم معه؛ بينما تعتبر إيران إسرائيل عدوا يجب إزالته على الأقل في أدبيات نظامها السياسي، إضافة إلى أن الإيرانيين لديهم أجندة استراتيجية مبنية على أيديولوجية عقائدية في توسيع النفوذ بالقوة الناعمة عبر دعم النفوذ الشيعي في مناطق التواجد الديمغرافي الشيعي في المنطقة، ومن خلال القوة الصلبة عبر تدعيم التواجد السياسي والعسكري الإيراني في المنطقة؛ وكذلك تدعيم القوة العسكرية لإيران والتي تحولت إلى قوة شبه نووية خلال العقدين الماضيين.
والنفوذ الإيراني بالقوة المرنة والصلبة يطوق تقريبا منطقة الشرق الأوسط؛ فثمة تواجد لإيران بقوة مرنة في البحرين والمنطقة الشرقية في السعودية وفي عُمان؛ وإضافة إلى النفوذ الصلب في اليمن والذي تحول من نفوذ مرن إلى صلب بواسطة جماعة أنصار الله التي تسيطر عسكريا على أراضي الشمال اليمني؛ وبالتالي طوق النفوذ الإيراني للجزيرة العربية يتراوح بين القوة المرنة والصلبة، ولكن المحور الأقوى في النفوذ الإيراني هو ذاك القابع في الشمال؛ والممتد برياً من طهران إلى الضاحية الجنوبية وسواحل المتوسط مرورا بالعراق وسوريا ولبنان؛ ويعتبر هذا النفوذ الأقوى لأنه مدعم بكلا القوتين الناعمة والصلبة، فالناعمة تجسدها الأغلبية الشيعية الديمغرافية في العراق والتواجد الديمغرافي الشيعي في الجنوب اللبناني؛ إضافة للتواجد العلوي على طول الساحل السوري؛ أما القوة الصلبة فتجسدها قوات الحشد الشعبي العراقية وفيلق القدس وحزب الله وتلك هي القوى الفاعلة على امتداد هذا المحور؛ وهي قوة استطاعت إقصاء كل القوى المنافسة على الأرض؛ والتي كانت آخرها دولة داعش والجماعات السنية المعارضة في سوريا؛ ومن قبلها قوات البشمركة في الشمال العراقي من الموصل وكركوك؛ مما أفسح المجال أمام تفعيل وتعميق نفوذ المحور الإيراني عسكريا وديمغرافيا؛ كذلك عبر تغير الخارطة الديمغرافية بهدوء في كثير من المناطق الواقعة ضمن هذا المحور الآخذ في التعاظم بفعل القوة الناعمة والصلبة الإيرانية.
وكذلك فإن هذا النفوذ الإيراني أصبح يمثل خطرا على قوى إقليمية عديدة كإسرائيل بوصوله إلى حدودها الشمالية؛ كما أنه مصدر إزعاج وقلق لتركيا الواقعة على تماس هذا المحور شمالا؛ بالإضافة إلى أنه يمثل خطرا داهما على أنظمة الخليج العربي في الجنوب؛ وكل تلك الأطراف هي ضمن معادلة النفوذ الدولي للولايات المتحدة؛ والتي ترى في تهديد حلفاءها خطرا مستقبليا داهم لمصالحها الاستراتيجية، وهنا تبرز الجهود الأمريكية والإقليمية في تقويض هذا المحور باعتباره خطرا استراتيجيا متصاعد؛ وهو ما ترجم عمليا بمواقف إدارة ترامب من الاتفاق النووي الإيراني الرافضة له والمهددة بالانسحاب منه في محاولة لإعادة فتحه مجددا؛ وإعادة صياغته عبر اتفاق جديد يفرض مزيدا من القيود على التمدد الإيراني في المنطقة؛ إضافة إلى الموقف الأمريكي المؤيد للتحالف العربي العسكري في الحرب الأهلية اليمنية؛ ولكن الادارة الأمريكية تعرف جيدا أن أي تقويض للنفوذ الإيراني يبدأ في الأساس بقطع أوصال محور طهران دمشق، ومن الواضح أن الضربات اليوم تدشن إشارة البدء لهذا القطع.
ومن الأهمية هنا الإشارة إلى أن التحالف الروسي الإيراني هو في الحقيقة شريان الحياة لهذا المحور؛ وهنا تطرح الأسئلة الصعبة في قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على إقناع الروس بتخفيف الدعم لحلفائها الايرانيين والضغط عليهم لتحديد نفوذهم في المنطقة ضمن محددات التوافق الدولي للقوى العظمى؛ وبغض النظر عما إذا كانت الضربات الأمريكية اليوم لسوريا وضربة قاعدة التيفور الأسبوع الماضي هي ضربات توافقية روسية أمريكية؛ أم أنها ضربات منفردة ضمن الضغط العسكري العملي على التحالف الروسي الإيراني؛ فإننا أمام حدث كبير في السياسة الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط سيكون له ما بعده نحو رسم خارطة المصالح للقوى الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط لعقود قادمة.
وإيران اليوم في عين العاصفة؛ لكنها تاريخيا تجيد لعب سياسة حافة الهاوية باحترافية عالية؛ وتستطيع من خلالها حصد أكبر المكاسب بأقل التنازلات؛ والاتفاق النووي خير شاهد على هذه الحقيقة؛ وعليه فإن اللحظة الراهنة تبدو من أصعب اللحظات على المنطقة نظرا لأن نتائج ما يجرى اليوم سيؤسس لمشهد طويل الأمد في المنطقة، ومن الواضح أن الجميع يدرك تلك الحقيقة؛ ويسعى لإيجاد مكان له تحت الشمس باستثناء العرب الذين على ما يبدو اعتادوا العيش في الظل حتى لو كان ظل عدوهم التاريخي.
اضف تعليق