يبدو ان عصر الديمقراطية المستنسخة قد كشف الكثير من زيف النسخة الاصلية وجعلها معرضة للانهيار أيضا، فالحكم الديكتاتوري الأوربي قد يعود من جديد، وصعود الأحزاب الشعبوية احد اهم مؤشرات هذا الانحدار، اما في أمريكا فالإدارة الامريكية أصبحت حكومة حرب خالصة، وكأنها مقدمة لعهد نازي قد يصيب الديمقراطية في عقر دارها.
في الدول العربية حيث ينعدم التصنيع، تنتشر البضائع المستورة بمختلف أنواعها، لكنها غالبا ما تكون بنسخ مستخدمة فيها الكثير من الندوب وعلى الزبون إصلاحها او الرضى بما وقع عليه حظه، وفي بعض الأحيان تكون النسخة جديدة لكنها تختلف كليا تحت مسمى البضائع المعدة للتصدير في إشارة الى عدم تطابقها مع معايير المنتج في البلد الأصلي.
في السياسة هناك تصدير أيضا ونسخ اصلية مختلفة تماما، فحينما تجري انتخابات شكلية في سوريا فهذا الامر مخالف للأعراف والتقاليد الديمقراطية التي تقرها الأمم المتحدة ويجب شن الحرب ضد الرئيس المنتخب "اجباريا"، وهو ما حدث في الفعل منذ سبع سنوات بتحريك ودعم غربي خليجي، ويمكن ان تجري انتخابات شكلية في الجهة المقابلة من البحر في مصر تحديدا لتجديد حكم شبيه بالذي يتربع على عرش السلطة السورية، الا انه يحظى بدعم غربي واسع، رغم قساوته في التعامل مع ابسط التحركات المعارضة.
الديمقراطية نظام قيمي قائم على اعلاء حق الانسان في اختيار من يمثله ويدير شؤونه بغض النظر عن صفته ان كان رئيس وزراء او رئيسا، او نائبا في البرلمان، ومن القيم الأخرى التي ترتكز عليها الديمقراطية هي ضرورة احترام حقوق الانسان وعدم التعدي عليها باي شكل من الاشكال، وفي التاريخ متسع من الأمثلة أبرزها ما قامت به الولايات المتحدة الامريكية لتغيير النظام العراقي بعد تهيئة خلطة من الاتهامات بعضها تعلق بحيازة أسلحة دمار شامل وأخرى بتهمة تقويض حقوق الانسان وعدم الالتزام بالمعايير الديمقراطية.
النظم السياسية قائمة على عدة معايير معقدة جدا، بحيث يصعب معها تفسير الكثير من الممارسات التي تجري على الجغرافيا الوطنية او على المستوى الدولي، فبين سياسة مثالية ترفع من شان القيم العليا لحقوق الانسان في التطلع لمستقبل أفضل، وأخرى واقعية ترى في العالم عبارة عن بيئة من الصراعات التي يصعب حلها فيجب مجاراتها وفق المصالح العليا للبلد ولا شيء غير ذلك.
ينظر الانسان الى هذه التعقيدات فيهرب من السياسة لأنها أصعب من ان تفهم، فكيف بمنظومة سياسية عريقة مثل الاتحاد الأوربي تعاقب دولة مثل روسيا، وحجتها تسميم جاسوس مزدوج في بريطانيا، وتطرد اغلب دول الاتحاد الأوربي الدبلوماسيين الروس لاتهامها بالقتل، في حين يرى الكثير من الباحثين والتقارير الإعلامية ان هذه الحملة الشعواء جاءت لتعكير أجواء الاحتفال بفوز فلادمير بوتين بالانتخابات لفترة رئاسية رابعة، وما قصة الجاسوس سكريبال الا ذريعة لذلك.
وبتتبع الممارسات الغربية المزدوجة، يمكن الجزم بان ما يجري من حملة شرسة يأتي في سياق الرد على فوز بوتين، وإذا ما كان ذلك فعلا، فهل تستطيع الدول الغربية ان موثوقة من قبل شعوب العالم الأخرى فيما يتعلق بالمناشدات التي تطلقها من اجل حقوق الانسان لا سيما في الأنظمة القمعية.
على سبيل المثال، طردت اغلب دول الاتحاد الأوربي الدبلوماسيين الروس من أراضيها لان موسكو متهمة بتسميم جاسوس واحد، وهنا تساءلت بعض وسائل الاعلام العربية الموالية للسياسيات الاوربية تجاه سوريا عن السبب الذي يدعو الاتحاد الأوربي لمعاقبة روسيا بهذا الشكل في حين لم يقوم باي فعل تجاه ما حدث في سوريا من عمليات عسكرية وشن غارات بالغازات السامة. بحسب تلك التقارير الإعلامية.
على الجانب الاخر، تتساءل وسائل الاعلام المعارضة للسياسيات الاوربية في المنطقة العربية عن حقيقة دفاع الدول الاوربية عن حقوق الانسان وهي لا تزال تبيع الأسلحة للنظام السعودي الذي ارتكب ابشع الجرائم بحق الشعب اليمني، وجعل هذا الأخير يعيش بأسوء كارثة عرفها التاريخ الحديث وفق ما وثقتها منظمات حقوقية دولية من بينها اوكسفام وهيومن رايتس ووتش.
ويطرح المواطن العربي أسئلة أخرى عن حقيقة الدعوات الاوربية والأمريكية لنشر الديمقراطية وهي تدعم أنظمة شمولية تحكم بأساليب تعود للعصور الوسطى كما تصفها الصحافة الغربية، اذ لم تشهد دول الخليج مجتمعة أي انتخابات رئاسية او نيابية حقيقة او مزيفة باستثناء الكويت، وتمارس أبشع صور التضييق على المواطن الخليجي، ومع ذلك تمثل هذه الأنظمة الحاكمة أكثر أصدقاء أمريكا واوربا حميمية.
وبعيدا عن المواطن العربي يجد المثقف الذي يرفع راية التغريب حرجا كبيرا امام هذا الكم من التناقضات الغربية في التعامل مع البلدان النامية، وتجعله يعيد تفكيره ألف مرة قبل الإفصاح عن رايه لتأييد السياسات الغربية في المنطقة والعالم، رغم ان وسائل الاعلام الكبرى قد تتكفل بتقديم حجج تضليلية مقنعة في الكثير من الأحيان.
جاءت الديمقراطية من رحم المعاناة التي عاشتها الشعوب الاوربية، وانسلخت من عباءة الحروب الامريكية، فأنتجت مجتمعات مستقرة سياسا واقتصاديا، ولأنها تعد التصدير فعلا مقدسها ارادت اوربا تصدير فائض الديمقراطية لديها، الا ان هذا الفائض يباع في مزاد علني لا يمكن بيعه الا لمن يدفع اكثر، ومن ضمانات ما بعد البيع ان الديمقراطية المعدة للتصدير تختلف تماما عن الديمقراطية الفعلية، فهي تقدم حسب الطلب ولا تتعدى الصمت على الجرائم او الممارسات القمعية فقط، او الترويج لتطور اجتماعي واقتصادي لا وجود له أصلا.
فازت بعض الدول بشراء نسخ معدلة من الديمقراطية مستفيدة من الأموال الطائلة التي تملكها، وبقيت أخرى تصارع مع شعوبها من اجل البقاء على قيد الحياة كونها ارادت صنع نسخة خاصة بها من الحكم، وهذا ما لا يجوز في نظام القيم الديمقراطية، فإما ان تملأ جيوب الغرب بالمال او تحجز تذكرة الموت مبكرا.
لكن في النهاية يبدو ان عصر الديمقراطية المستنسخة قد كشف الكثير من زيف النسخة الاصلية وجعلها معرضة للانهيار أيضا، فالحكم الديكتاتوري الأوربي قد يعود من جديد، وصعود الأحزاب الشعبوية احد اهم مؤشرات هذا الانحدار، اما في أمريكا فالإدارة الامريكية أصبحت حكومة حرب خالصة، وكأنها مقدمة لعهد نازي قد يصيب الديمقراطية في عقر دارها.
اضف تعليق