صفقة القرن هي معاهدة فرساي جديدة بعد قرن من الزمن؛ لكنها تتفوق عليها بأبعاد الإهانة المتشعبة لكل ما هو وطني وقومي وعقائدي ليس للفلسطينيين فحسب بل لأمة بأسرها؛ وعلى العالم أن يستعيد قول السيناتور الأمريكي فيلاندرز نوكس للرئيس الأمريكي في حينه توماس ويلسون...
يروي التاريخ كيف زرع الحلفاء بذور التطرف في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك بفرضهم لمعاهدة فرساي عليها؛ والتي كانت بمثابة معاهدة إذلال واستسلام للإمبراطورية الألمانية في حينه وللشعب الألماني؛ بما فرضته من إملاءات على ألمانيا تتعدى حدود نزع مساحات شاسعة من أرضها؛ إلى التدخل السافر في نظام حكمها السياسي والاقتصادي؛ وذلك نحو إبقاء ألمانيا دولة ضعيفة مثقلة بالديون لدول الحلفاء وبلا سيادة فعلية؛ كل هذه الإجراءات وفرت البيئة الصحية والملائمة لنمو الحركة النازية وترعرعها؛ لتثمر بعد عشرين عام من تلك الاتفاقية حمم تطرفها على أوروبا والعالم، وهنا نحن أمام نموذج مثالي على كيف ينمو التطرف تلقائيا متى توفرت له البيئة بغض النظر عن الزمان والمكان؛ والبيئة هي الظلم والقمع والاضطهاد بأبسط المصطلحات البشرية؛ أما في السياسة فهي الإهانة الوطنية أو القومية أو العقائدية لأمة ما.
ولقد مَثَل فرض معاهدة فرساي على ألمانيا إهانة وطنية وقومية للأمة الألمانية؛ دفع الحلفاء وأوروبا والعالم بأسره أثمانا باهظة لها؛ لأن قادة الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى لم يستوعبوا قوانين الفيزياء السياسية للأمم؛ والتي يُولد بموجبها وبشكل تلقائي لكل فعل مهين ردة فعل مضادة له في الاتجاه؛ وعادةً أكثر قوة وتطرفا منه في المقدار.
واليوم الإدارة الأمريكية تريد فرض معاهدة فرساي جديدة على العرب؛ والفلسطينيين بشكل خاص تحت عنوان صفقة القرن؛ وهي في الحقيقة تعيد خطأً تاريخياً قاتلاً؛ ارتكب قبل قرن من الزمن، ولن تجدي أي تحالفات ضد الإرهاب والتطرف في منع تكرار المشهد الأوروبي بصورة أكثر كارثية في الشرق الأوسط، فالتحالف الاسلامي لمحاربة الإرهاب والتطرف المتوقع كردة فعل على فرض الصفقة، والذي استبق به الرئيس ترامب إرهاصات صفقته قبل عام؛ لن يكون بمقدوره كبح جماح التطرف الذي سوف يحدثه فرض صفقته على العرب والفلسطينيين خاصة؛ لأن القضية الفلسطينية ليس قضية وطنية للفلسطينيين فحسب؛ بقدر ما هي بالأساس قضية تمس العصب الحساس للشعور القومي والعقائدي لأمتين يزيد تعدادهما عن المليار ونصف؛ حتى وإن ادعى البعض زوراً أنها قضية الفلسطينيين وحدهم.
وبذلك فإن إدارة الرئيس ترامب تُسمد الأرض بصفقتها؛ لتنمو بذور التطرف والإرهاب؛ ليس في الشرق الأوسط فحسب؛ بل في كل العالم ضمن نفس قوانين الفيزياء السياسية التي أنتجت الحركة النازية؛ وستنتج حركات متطرفة دينية وقومية ووطنية؛ وستجد تلك الحركات الدعم والتأييد من الشعوب المهانة في وطنيتها وقوميتها وعقيدتها بصفقة القرن؛ وستعرف طريقها إلى السلطة بالانتخابات أو الثورات أو حتى الانقلابات؛ وسيتكرر المشهد الدموي بمزيد من أنهار الدماء وبأبشع مما كان.
وإذا لم يتدارك العالم وأوروبا بشكل خاص حجم العواقب الكارثية التي ستترتب على فرض صفقة القرن على الفلسطينيين بإرهاصاتها المعلنة؛ والتي بدأت باعتراف الولايات المتحدة بالقدس مدينة التعدد الديني والثقافي عبر التاريخ كعاصمة لدولة إسرائيل؛ والتي هي في الحقيقة تمثل دولة قومية دينية موغلة في الثيوقراطية السياسية والثقافية؛ وهو ما يعني تجريف لتاريخ المدينة والمنطقة برمتها؛ ونسف لحقائق ثقافية وعقائدية راسخة في وجدان أمة بأسرها؛ لصالح رواية تاريخية يهودية مزعومة لا سند لها في الواقع، وباعتراف كبار خبراء الآثار الإسرائيليين اليهود أنفسهم.
وتقع على أوروبا اليوم مسؤولية تاريخية في هذا الصدد، نظرا لتجربتها الماثلة؛ ولروابطها التاريخية والجغرافية مع المنطقة، والتي لن تجعلها في منأى عن الكارثة؛ ولمسؤوليتها التاريخية عن هذا الصراع؛ بحكم أنها كانت مهد الصهيونية الدافئ؛ والمشكل اليهودي التاريخي بدأ من داخلها؛ وصدر إلينا منها وعد بلفور ودعم أوروبي سياسي وعسكري واقتصادي متواصل وسخي للدولة الإسرائيلية منذ نشأتها وحتى يومنا هذا، وهو ما يفرض على أوروبا مسؤولية أخلاقية تجاه الفلسطينيين؛ كونهم ضحايا السياسة الأوروبية الاستعمارية خلال القرن الماضي.
إن صفقة القرن هي معاهدة فرساي جديدة بعد قرن من الزمن؛ لكنها تتفوق عليها بأبعاد الإهانة المتشعبة لكل ما هو وطني وقومي وعقائدي ليس للفلسطينيين فحسب بل لأمة بأسرها؛ وعلى العالم أن يستعيد قول السيناتور الأمريكي فيلاندرز نوكس للرئيس الأمريكي في حينه توماس ويلسون الذي كان قد وقع على معاهدة فرساي لتوه ليعرضها على الكونجرس الذي رفض المصادقة عليها؛ حيث قال له السيناتور " إن هذه المعاهدة لن توفر السلام أو الأمن بل ستفتح الطريق لحرب أفظع من تلك التي انتهت للتو"، وبعد عشرين عام تحققت نبوءة السيناتور باندلاع الحرب العالمية الثانية.
اضف تعليق