q

يربط علماؤنا الأجلّاء بين القراءة وتحديث العقول، ويؤكدون أن الانتقال إلى العالم المحدث مرتبط بالفعل القرائي، ودونه لا يمكن تحصيل شروط مغادرة التأخر إلى الاستقرار وفتح نوافذ جديدة للعقل، يضيء دروب الناس نحو آفاق متجددة، وإن ضعفت القراءة، وعزف القراء عن مداولة هذا الفعل الأساس، فماذا سينتج عن ذلك، إن النتيجة واضحة تماما الوضوح، ومعروفة حتى من أبسط الناس فكرا، إذ ستنعكس قلة القراءة على قلة اقتناء المطبوع.

وفي حال يقلّ الاقبال على شراء المطبوعات بمختلف أنواعها ومجالاتها ومضامينها العلمية والانسانية، فإننا سنكون بإزاء مؤشر خطير على ضعف الإقبال على الفعل القرائي، وحين نكون أمام مجتمع غير قارئ، فهذا يعني أننا نقف حيال مجتمع يعاني من وباء الجهل، وهنا سوف تُثار أسئلة عديدة حول هذا المحور بالغ الأهمية.

منها على سبيل المثال وليس الحصر، هل يعاني المطبوع الثقافي والفكري بشكل عام من أزمة، وهل بات الاستغناء عنه أمرا محسوما، في ظل التراجع الكبير والمتواصل للفعل القرائي؟، بالطبع ثمة أجوبة كثيرة تدخل في هذا المضمار،لأن ما يحدث على الارض يؤكد أن معظم المطبوعات الثقافية الورقية والفكرية باتت تواجه خطر الانقراض، حتى تلك المجلات الثقافية العراقية التي احدثت ضجة في عالم الثقافة عبر نشوئها ومسيرتها وقدراتها في تثوير الواقع الثقافي والادبي العربي، كما هو الحال مع مجلة الآداب اللبنانية التي أصدرها سهيل إدريس في حياته قبل مماته، واستمر بإدارتها ورعايتها وتطويرها وتسويقها حتى رحيله، لتتسلم زوجته مهام الإصدار والإدارة والمتابعة، ومن تابع تأثير هذا المطبوع على المستوى الأدبي والفكري، سوف يعرف لماذا ذكرناها لنموذج نستشهد به عن مفعول المطبوع الفكري.

وحين يستقطب مطبوع ما كبار الكتاب، فهذه شهادة ثابتة على قيمة وأهمية ذلك المطبوع، ولا يخفى على المتتبع والمعني، ماذا يعني مطبوع ثقافي كمجلة الآداب، وما هو دورها الكبير في تدعيم وترسيخ تجارب ثقافية عربية مهمة، عبر مسيرتها الطويلة، ولكن ان يصل الامر بهذه المجلة الثقافية وغيرها من المطبوعات الثقافية، أن تعلن توقفها عن الاصدار، فهذا يمثل جرس الانذار لموت المطبوعات الثقافية الورقية تباعا، الأمر الذي يتطلب تمحيصا دقيقا في الاسباب التي أدت الى مثل هذه النتائج الخطيرة، ولعل السبب الذي يتقدم كل الاسباب هو عزوف القراء عن قراءة المطبوع الثقافي الورقي، في ظل سيول المعلومات الكثيرة والمتنوعة والهائلة التي تبثها وسائل الاعلام المتطورة على مدار الساعة، وفق طرق واساليب لا تتعب القارئ، بل تضع كل ما يريد بين يديه بمجرد أن يضغط هذا الزر او ذاك ليطلع على كل ما يرغب ويريد في الثقافة او غيرها.

ويضاف إلى ما ذكرناه سابقا من أسباب، سبب في لبّ الموضوع، يتعلق بطبيعة المضامين الفكرية والثقافية التي تلهج بها أقلام الكتاب، وطبيعة هذه المضامين، ومدى ما تقدمه له من وجبة غذاء فكري تنطوي على الأصالة والإفادة العلمية والفكرية، على أننا يجب أن نعترف، بأن الخلل لا يكمن فقط في تخلي القارئ، عن مطالعة ومتابعة المطبوع الثقافي، بل هناك اسباب تتعلق في مضامين وتصاميم المطبوع نفسه، لقد لوحظ على معظم المطبوعات الثقافية الورقية اسرافها في المضامين النصيّة لاسيما الشعرية منها، وهي بذلك تقصي المضامين الجاذبة الاخرى، فضلا عن فقدانها لعناصر جذب كثيرة للقراء، ومن الواضح ان الاغراق النصي للمطبوع صار يقود القارئ الى نوع من التغاضي وربما التهرّب من القراءة ايضا، فيما يندفع بالمقابل نحو وسائل التوصيل الحديثة التي تضع بين يدية ثقافات مختلفة بجهود مادية وفكرية قليلة قياسا بتكاليف المطبوع الثقافي الورقي، والجهد القرائي الذي يجب أن يبذله القارئ للاطلاع والتواصل، ولهذا لابد من التفكير في بدائل جذب ترغم القارئ على التمسك بالفعل القرائي، وهذا الامر يحتاج الى تخطيط من ذوي الاختصاص يتعلق بميول القارئ والظروف التي تستجد في الوضع الثقافي والاعلامي، حتى يتمكن ذوي الشأن من وضع البدائل المطلوبة في هذا المجال، وفي هذه ربما نكون قد أسهمنا بطريقة أو أخرى في وضع بعض الحلول لمعالجة مثل هذه الحالات، مع أنها قد لا تخرج بنتائج ناجع.

وثمة إشكالية لها علاقة مباشرة بطبيعة المحتوى، إذ لابد من الإشارة الى نقطة تتعلق بعجز المجلات الثقافية عن مواكبة العصر، بسبب ايغالها في الجانب الترفيهي والسطحية التي تنطوي عليها مضامينها ومواضيعها المختلفة، أو انها توغل بالنصية والشعرية كما مر ذكره، علما ان القارئ دائما يريد أن يقرأ ما يمس حياته ويطورها ويهتم باحتياجاته الثقافية والفكرية وسواها، لذا فإن الاسراف في الترفيه وعرض الصور المغرية وما شابه من اساليب، لا تساعد في تسويق المطبوع، بقدر ما ينطوي عليه من محاكاة واضحة ودقيقة لأوضاعه واحتياجاته، علما ان ظاهرة اضمحلال المطبوع الثقافي خصوصا، والمطبوع على نحو عام، تكاد تكون ظاهرة تمتد حتى الى الدول المتقدمة، حيث تعلن بعض المجلات والصحف والمؤسسات الاعلامية المعروفة على مستوى العالم، بين حين وآخر افلاسها وعدم قدرتها على مواصلة الصدور، والسبب دائما يرتبط بضعف اقبال القراء على اقتنائها، وهذا مرتبط بظاهرة العزوف عن قراءة المطبوع الثقافي الورقي، لذا يحتاج الامر الى وضع الحلول الصحيحة، لان الخسارة التي تلحقها هذه الظاهرة بالثقافة جدية ولا يصحّ تجاهلها، ومن المفارقات المشجعة، أن يقدم أحد الكتاب المخضرمين (زيد الحلي) على إطلاق مجلة ورقية جديدة حملت عنوان (دنيا) مؤكدا بأنها صامدة في جانب التسويق محليا وعربيا، وهذا يثير أسئلة جديدة ومثيرة حول موضوعنا الوارد في متن هذا المقال!!.

 

اضف تعليق