((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) (سورة يونس، 35).
ربما يكون ضغط الحالة المعيشية وتفشي الفساد المالي والاخلاقي وتراجع العدل أمام الظلم والجور في عهد يفترض ان يسوده العدل والأمان والرفاهية تحت لافتة "الديمقراطية"، هو الذي يدفع البعض للترحّم على الديكتاتورية ومساوئها، ليس لانه جيد، او لان الناس لم يعرفوا قيمته – افتراضاً- بل مع معرفتهم بسوئه وما تجرعوه من مآسي وويلات، إنما لسبب الأسوء الذي جاء به النظام السياسي الجديد، وتحديداً الساسة الجدد، من حملة لواء الديمقراطية وتمثيل الجماهير في تحقيق مطالبهم وتطلعاتهم.
وبالرغم من سنّة التغيير في الحياة، وهو ما فهمته جميع الشعوب المنتقلة من مرحلة الديكتاتورية الى الديمقراطية، وكيف أنها تتطلع نحو الإصلاح والبناء وخلق البدائل، وعدم النظر الى الوراء مهما كانت الاسباب، نشهد ان الوضع في العراق يختلف كثيراً وبشكل غريب، فثمة توجه سائد – او ربما يتم الترويج له- بأن الوضع العام في العراق كان في العهد البائد أفضل مما هو عليه الآن، بالرغم من وجود حقيقة لا يماري فيها أحد بأن الشعب العراقي حصل ما لم يحصل عليه أي شعب آخر شهد هذه النقلة، من تغيير في طريقة حياته وتفكيره نحو الأحسن، فقد انطلق البناء والتعليم والتجارة والسفر وغيرها، ووجد الانسان العراقي نفسه امام فرص كيبرة للنمو والتطور لانه الوحيد الذي يسكن على أرض مليئة بالمعادن والنفط، وثرية بالخصب مع وفرة المياه العذبة، وهو ما لا يتوفر إلا لقليل من الدول في العالم.
كل ذلك يتبخر امام أعين الكثير لمجرد حصول مشكلة ما في الخدمات، او الامن، او التعليم، او الصحة وغيرها من مؤسسات الدولة. فيلجأون فوراً الى الماضي في حالة، ربما تكون لاإرادية لاسترجاع واقع التخلف والارهاب والقمع لانه يقدم الحصة التموينية كاملة بداية كل شهر، ويفرض الأمن والانضباط على الجميع، وهو ما جاء في لسان أحد المواطنين بأن صدام كان يكتم أنفاس الصالح والطالح، أما اليوم فان الاثنين يعملون ويفعلون ما يشاؤون.
بعدُ لم نصدق أنفسنا!
الشعوب التي تمتلك الثقة بقدرتها على صنع الواقع، هي من تمضي بخطوات ثابتة نحو التغيير والتطور، والبلدان النامية مثل؛ كوريا الجنوبية والهند والصين لم تتطور وتفرض نفسها على العالم بفضل احزاب سياسية او رموز كبيرة، انما بفضل تفاعلهم مع البرامج والخطط التي وضعها هذا الرئيس او ذاك، وإلا من الذي طبق خطوة الانفتاح الجريئة للزعيم الصيني السابق؛ دينغ هيتساوبينغ في الثمنينات، لتتحول الى قفزة اقتصادية ترفع الصين الى مرتبة الدول المصنعة من الدرجة الاولى في العالم؟ ومن الذي طبق خطة النمو والبناء لزعيم سنغافورة الذي انتشل هذه الجزيرة الصغيرة من مستنقع التخلف والتبعية الى مصاف الدول المتقدمة؟ وهكذا الامثلة كثيرة في هذا السياق.
لقد أمضى الشعب العراقي فترة ليست بالبسيطة في ظل انظمة حكم لم تقم له أي وزن وتأثير في صنع القرار السياسي، حتى بلغ به الأمر في نهاية المطاف، أن "قال صدام قال العراق"، هذه المصادرة للفكر والرأي والكرامة هو الذي جعل الناس مسلوبي الإرادة، ينتظرون أي تطور او تغيير من خلال قرار حكومي يصدر عبر وسائل الاعلام، كما كان حال الانقلابات العسكرية وتغيير النظام السياسي بين ليلة وضحاها عبر المذياع في "بيان رقم واحد".
وعملية إحياء الثقة والإرادة في النفوس، ليس بالضرورة ان تظهر من خلال قفزة سياسية وانتخاب النواب وتشكيل الحكومة بشكل مثالي في دولة حديثة العهد بالديمقراطية، فهذا ما لا تنجح فيه مئة بالمئة حتى الشعوب التي مارست الديمقراطية قروناً من الزمن مثل الشعب البريطاني او الشعب الاميركي، انما تكون البداية من الشارع وأماكن جمع القمامة، ومن المدرسة، والمستشفى، وطريقة استهلاك الماء والكهرباء، وغيرها من المرافق الخدمية وميادين العمل التي يثبت فيها الناس قدرتهم على التغيير الحقيقي المنشود.
ولابد من الالتفات الى حقيقة مرّة يعيشها العراق حالياً، وهي وجود فكرة مريضة في أدمغة بعض الساسة – إن لم نقل جميعهم- أنهم اصحاب فضل كبير على الشعب العراقي بأن أخرجوهم من الرعب والحرمان في عهد صدام، وها هم اليوم ينعمون بالحرية والرفاهية بنسبة كبيرة، فيرسلون بناتهم الى المدرسة ثم الجامعة، ثم الحصول على وظائف لهنّ، فضلاً عن البنين، وايضاً الانطلاق في بناء الدور والمحال التجارية والسفر، بل وفتح ابواب الاستيراد دون رسوم جمركية تذكر، واقتناء الحديث من وسائل النقل والاتصال والسلع الاستهلاكية وغيرها، فهل يجب أن نعبّد لهم الشوارع حتى أبواب بيوتهم الحديثة لتسير عليها سياراتهم الفارهة؟!!
هذه الفكرة من شأنها ان تبقي الشعب العراقي في دوامة الازمات، وايضاً في نطاق العلاقة المختلة مع الساسة والمسؤولين في الدولة، ولسنين وربما عقود قادمة، بما يعني غلق كل منافذ التقدم امام العراق؛ الشعب والبلد، وفتح كل مسالك الحروب والازمات السياسية والاقتصادية، يضاف اليها التشويش الذهني والفكري واسقاطاته على الحالة الاجتماعية، وما الازمات المتعاقبة، إلا دليل على فقدان النظرة الايجابية للمستقبل والتعلق بأوهام الماضي.
إن الهروب من كابوس هذه الفكرة المريضة الى فكرة تبييض العهد البائد، ما هو إلا خروج من نفق والدخول في نفق مظلم آخر ليس إلا، ثم الترحّم على ذلك العهد لن يضر الاحزاب السياسية المتحكمة بمفاصل الدولة، ولا بالذين يتمتعون بالامتيازات والمناصب الرفيعة طيلة الخمسة عشر عاماً الماضية، أنما المتضرر الوحيد هو الشعب العراقي الذي يبدو انه بهذه الطريقة يعاقب نفسه بنفسه!
القدوة الحسنة
ان ما يميز الشعب العراقي –ربما- عن جميع البلاد النامية والمتقدمة، ان لديها نماذج راقية وجاهزة تقتدي بها لتحقيق التغيير المنشود، بينما البلاد الاخرى تنتظر ربما عقود طويلة لظهور من يحمل عقلية منفتحة او رؤية تنموية مع جرعات من القيم الاخلاقية والانسانية المساعدة على إذكاء روح المسؤولية والتفاعل بين الناس، ومن ثم إنجاح الخطة والانتقال من التخلف الى التقدم، بينما العراق يحمل رصيداً حضارياً عظيماً تتحسّر عليه شعوب العالم، والمفارقة أننا نشهد بحوث واهتمام بالامام علي بن أبي طالب، وسائر الأئمة المصعومين، وحتى النبي الأكرم، من قبل غير المسلمين وغير شيعة أهل البيت، حتى اضحت المفاهيم الانسانية في منظومتهم السياسية مدار حديث عالمي منها؛ "الناس صنفان؛ إما أخ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق".
فهذا الامام أمير المؤمنين، في قواعد البناء الاجتماعي والسياسي، وهذا الامام الحسين، في نهضته الإصلاحية للانسان والمجتمع والدولة. وكذلك الحال نجد الادوار المتعددة للمعصومين، عليهم السلام، ومن سار على هداهم من العلماء ممن جسدوا قيم الاسلام واعطوها مصداقية حقيقية على ارض الواقع، عندما جسدوا الكرامة الانسانية في معارك الاستقلال وتحدي الهيمنة الاجنبية، وايضاً في بناء الانسان الواعي والناهض.
بوجود رصيد كهذا، كيف نسمح لانفسنا بالنظر الى الماضي البائس واستحضاره مهما كانت الاسباب؟ فاذا اردنا معالجة ظاهرة سرطانية وقاتلة مثل الفساد الاداري، ما علينا إلا أن نراجع طريقة تعاملنا مع مؤسسات الدولة وكيفية تمرير المعاملات لتحقيق بعض المصالح، وإلا فان مواقف أمير المؤمنين العديد في مجال الامانة والمساواة والعدل والتسامح لم تكن موجهة الى الولاة والحكام آنذاك، انما لجميع الناس، لان الفساد المالي في عهد عثمان كان قد عمّ معظم افراد المجتمع الاسلامي الكبير في تلك الحقبة الزمنية، ولذا هتف، عليه السلام، في احدى خطبه: "...فان في العدل سِعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق".
اضف تعليق