هل تحتاج الأحزاب العراقية إلى تدعيم البنية الفكرية لها؟ سؤال يحمل معه إجابته التي لا يختلف عليها السياسيون أو المفكرون إلا ما ندر، فلا تقوم قائمة للحزب - أي حزب بغض النظر عن انتمائه أو توجهاته- إلا بالفكر المبدئي الرصين، فمثلما يحتاج المجتمع والفرد إلى بنية فكرية مبدئية تدعمها القيم الأصيلة، كذا يكون الحزب بأقصى الحاجة لهذه البنية، لأنّ غيابها أو اضمحلالها، يعني مصيرا مجهولا للحزب، إن لم نقل أن نهايته محتومة في الوقت المنظور.
وفي محاولة لسبر أغوار الفكر السياسي العراقي القديم، واستشفاف كينونته، فإن الشواهد وأدلة البحث تؤكد تطور هذا الفكر في سالف الأزمنة، حيث السياسة واضحة المعالم لها أسس وقواعد معمول بها، وقد درس كثير من علماء السياسة العراقيين وغيرهم، تأريخ العراق السياسي القديم وكتبوا فيه الكثير، واكتشفوا بنيته التي لا يمكن إنكار دورها في تزويد الحاكم بقدرة الإدارة السياسية في عالم كان يوصف بالبدائية، لكن الفكر كان له سطوة وحظوة في تسيير الحياة.
درست أجيال عديدة في كليات العلوم السياسية والقانون وسواها، هذا التأريخ الذي يعبق بالفكر السياسي الواعي، وهو الذي صنع قاعدة يستطيع أن يرتكن إليها اللاحقون من الساسة، وقد فعلوا ذلك، ما يثبت متانة الأسس والقاعدة من جهة، وعدم الارتكاز عليها في تعميق الفكر السياسي المحدث، كونها تشكل الجذور الفكرية الرصينة التي ينبني عليها الراهن.
ولو أننا تقدمنا من أطناب التاريخ القديم وفكره السياسي الشاخص، إلى مرحلة أحدث، فإننا كمتفحصين مهتمين ومختصين، سنجد بنية سياسية ضخمة، تمكن من بناء دولة كبرى، عجزت عن مواجهتها أو مضاهاتها دول أخرى، فالدولة التي شخصت وانبت في مطالع الرسالة النبوية، ما كان لها أن تنمو وتكبر وتتضخم وتتمدد كدولة مدعومة بالفكر والمبادئ والسياسة الناجعة، لو لا تألّق بنيتها السياسية، فالقائد الأعلى لدولة المسلمين محمد بن عبد الله (ص)، برع في السياسة كما برع في الإدارة والاجتماع وتأسيس وتطوير الدولة على أسس وقواعد قدمت أعظم الدروس لساسة العصر الراهن في اعتمادية فكرا سياسيا متألقاً كثير التوازن والدهاء والثراء والمبدئية العالية.
هكذا يمتلك سياسيونا في العراق، حصيلة سياسية يُشار لها بالبنان، تراوحت في انبثاقها بين التاريخ السياسي القديم ونشوء دولة المسلمين الأولى، وما تلا هذه التواريخ من مدارس سياسية لا يمكن للتاريخ أو الحاضر وحتى المستقبل أن يبخسها حقّها أو يتجاوزها، كما في تجربة القائد السياسي المحنَّك الإمام علي بن أبي طالب (ع)، هذه المدارس السياسية المتمركزة في مدار التاريخ حملت في مخزونها الفكري المبدئي دروس عظيمة الثراء، فهل أفادَت منها أحزابنا وسياسيونا؟.
من يتغلغل في البنية الفكرية السياسية لأحزابنا العاملة حاليا في العراق، سوف يكتشف على نحو السرعة أن بنيتها متخلخلة، غير مكتملة، وربما لم تبلغ الرشد المطلوب، على الأخص في رحبة الفكر السياسي، ودلائل هذا الاختلال والضعف قد تكون كثيرة، يتصدرها ما آلت إليه أحول الدولة العراقية، وتدهور مفاصلها في السياسة والاقتصاد ومقومات الحياة الأخرى، الصحة، التعليم، التجارة، الصناعة، الزراعة، الثقافة، الاجتماع وسوى ذلك.
ولو أن هذه الأحزاب قرأت التاريخ السياسي القديم والإسلامي المشرق للعراق، لكانت في وضع آخر تماما من ناحية البناء الفكري لأعضائها، وما ينتج عن ذلك عن حالات ومؤشرات تنامي هائلة، فقد بنت السياسات القديمة والإسلامية شخصية واثقة متفتحة وقوية للدولة وللفرد، فصار الجميع يتحركون بتوازن ودربة عالية خاصة السياسيون، وساعدهم ذلك في السير والانتقال والتقدم بالدولة من حلقة أدنى إلى حلقة أعلى وأرقى.
وكان حري بالأحزاب، بالأخص قادتها أن تأخذ من التاريخ السياسي الأقرب (الإسلامي المشرق)، دروسا عظيمة تمنحها الخبرة والكفاءة والتنوّر، والأهم تزيدها حصانة في الجانب المبدئي، فإن تمكنت الأحزاب من بناء عقول ونفوس مخلصة متنورة، لا يمكن لكل مغريات الواقع والمال والجاه والقوة والمنصب، أن يسحبها إلى ما هو أدنى، ويجعلها أكثر تركيزا على إحاطة النفس بجدار عالٍ من القيم المانعة للانحدار المادي.
البنية الفكرية السياسية الضعيفة أو المختلّة، تؤدي بدورها إلى ضمور وقصور في المبدئية، وإذا ضعف الفكر والمبادئ والقيم، ما الذي تبقّى للحزب كي يحميه من الانحدار في فخ المادية وما يضج به واقعنا من مغريات هائلة، هل أن أسباب التخلل البنائي في مؤسسات الدولة وفي السياسة والاقتصاد والبنية الاجتماعية، يعود فعلا إلى تخلل الفكري السياسي والمبدئي للأحزاب أو بعضها؟، إن الأخيرة هي التي تقود الناس، وهي النموذج لهم، فإن صحّت الأحزاب مبدئيا وفكريا، صحّت جموع الناس تأسياً بالنموذج الذي يقودها، والعكس يحدث بالطبع.
كيف نبني دولة مدنية حامية للجميع؟ في الحقوق، حرية الرأي، الإعلام، الفكر، العيش الرغيد، سؤال من أهم أسئلة واقعنا المتداخل، نحن لا يمكننا أن نمضي سياسيا بلا أحزاب، العراقيون يحتاجونها لضمان النظام السياسي متعدد الآراء، ولكن ما يريده العراقيون أحزابا تمتلك في جعبتها بنية سياسية مبدئية فكرية، تحمي الحزب وأعضائه مبدئيا، من السقوط في حمأة المادية ومغرياتها، كيف تحصل الأحزاب على هدف مركَّب كهذا؟ جودة وحصانة في المبدأ والفكر السياسي؟.
نتيجة للتراكم الفكري المعرفي للحزب، مع تجديد المبدئية، وتثقيف أعضاء الحزب بها، والحرص على انتخاب قيادة نموذجية، محصّنة بالمبادئ والفكر السياسي المتّزن، سوف يكون الحزب قادرا على تكوين البنية الفكرية التي تدرأ التهالك المادي لأعضائه وقادته، وسوف تتصدر أعماله ومساعيه، الجودة والإخلاص والحرص على الدولة ورصيد الفرد والمجتمع من الحياة الكريمة والعيش الملائم في ظل خدمات أساسية منقاة من الشوائب، مع توازن في العلاقات السياسية، واستقرار الاجتماعية، وتطور العلمية.
كل هذا سيحدث في ظل أحزاب تمتلك الحصانة والبنية الفكرية السياسية، وتنهل من تأريخها السياسي المائز في حلقاته المشرقة، وكلما نضح الحزب وازداد حصانة ضد الإغراءات، سيكون مهيئا للفاعلية المجدية، محققا للشعب الذي يثق به تطلعاته، والحزب بهذه النسخة المتميزة، سوف يكسب الاحترام والثقة، وينعكس ذلك من الحزب إلى الشعب، هذا ليس عسيرا قط، كل ما هو مطلوب وضع الخطط لتطوير البنية الفكرية السياسية من قادة الحزب، وزرع الحصانة في أعضائه، والانطلاق في مشروعه كي يصبح حزبا يحقق ما يتطلع إليه العراقيون فعلا وقولا.
اضف تعليق