الأقوام التي تسكن المعمورة، تختلف بعضها عن بعض، وحتى القوم الواحد سنجد فيه اختلافات بالمكونات، وقد تُنسَب من حيث الاختلاف إلى الدين والعقائد والمبادئ والعادات والثقافة برمّتها، في هذا الحالة يكون سكان الأرض مختلفين عن بعضهم، سواء بين المجتمعات والجماعات والأفراد بين فرد وآخر.
فالاختلاف قد يكون فكريا أو مبدئيا أو سواه، وفي البحث عن المسببات، فهذا يعود إلى أصل المنشأ وولادة الإنسان، فأول المسببات هو البيئة الشاملة التي يترعرع فيها البشر، ولا تتوقف البيئة هنا على طبيعة الجغرافية وحدها ولا على المكوّن القومي العرقي، ولا اللغة أو الأرض أو الدين أو الدم، ولا يتوقف الاختلاف بين الأقوام على نوع الثقافة في هذه البيئة أو تلك، فجميع ما ذكرناه من فروع للبيئة يتدخل في صنع الكينونة الإنسانية ويحدد مواصفاتها.
ثمة من يؤكد من ذوي التخصص بـ الانثربولوجيا، أن التنوع في الفكر أو الثقافة أو المبادئ قد يُسهم في تشكيل أمة متماسكة، إذا تعاونت مكونات الأمة في فهم بعضها بعض، بما لا يجبر أحدها على تغيير طبيعته عن الآخر، فالهويات الفرعية يمكن أن تتحد فيما بينها وتتعايش تحت مظلة الإنسانية والوطنية، وما أعظم وأجلّ ذلك الوئام الذي يصنعه التوافق على التنوع وتوظيفه لصالح الجمع وكينونته المتنوعة.
يشبّه علماء اجتماع تنوع المجتمع وتكوينه من عدة أعراق أو إثنيات، بالفسيفساء، يتم هذا التشبيه في حال يتشابك الجميع في نسيج اجتماعي واحد، تحتفظ فيه الفروع بخصوصيتها الفكرية والدينية والثقافية وغيرها، مع مراعاتها للانتماء الأوسع، كالوطن أو الأمة وسواها، ولا نمانع في أن الاختلاف في الفكر قد يتطور إلى ما هو محذور إذا فقد خاصية الاعتدال.
فإن تسلّل التطرف الفكري في النسيج الواحد، سوف يمزقه، ويبثّ التناحر بين أفراده وجماعاته، وهكذا يُصبح الاختلاف لعنة تسعى لتمزيق القوم الواحد الذي يعيش أعضاؤه معا في أرض واحدة، تجمعهم مشتركات الدين والوطن والمبادئ وما إلى ذلك، لأن التطرف يجعل من الهويات الفرعية وباء على حامليها، ينشر بينهم التناحر ليس الفكري فحسب، فثمة التناحر في إطار الاقتتال والاحتراب الأهلي وهو ما حدث في جميع الأمم عندما كانت تتطهر بنار التطاحن والعذاب.
في حال حدث العكس، أي حين يُصار إلى توظيف الاختلاف لصالح التماسك الاجتماعي، فإن التنوع سوف يكون طريقا سالكا إلى صنع مجتمع يزيده الاختلاف الفكري والديني والعرقي تقاربا وتناغما، فيما إذا ساد الاحترام بين المختلفين، وتم احترام الهوية والخصوصية لتنصهر مكونات المجتمع كله، في بوتقة واحدة تمنحه النسيج المتراصّ المتماسك غير القابل للاختراق قط.
الآن نعرّج على الحلقة المفقودة في سلسلة التماسك، متى يمكن أن يكون التنوّع بالضد مما أوردنا، وهل سيكون في مرحلة أو ظروف معينة وباءً بدلاً من أن يكون دواءً للمجتمع، نعم أهم حلقة رابطة للتنوع الثقافي المجتمعي حين يُصبح التمسك بالمنحى التطرفي، عازلا بين المكونات الاجتماعية، يحدث هذا حين يذهب الاتفاق على الاختلاف أدراج الرياح، فالحلقة الأهم هنا مفقودة، من خلال عدم الاتفاق والتوافق على الاختلاف، فماذا يحدث للبنية الاجتماعية حين يتم فقدان هذه الحلقة الحافظة للتناغم والتناسق المجتمعي دون الاضطرار إلى التخلي عن الهوية الفرعية؟.
ما سيحدث آنذاك ببساطة هو تفكك النسيج الواحد، واختراقه بالتطرف والعصبية المفرطة، ما يقود إلى عدم الاتفاق على حفظ التنوع وتهشّم أطر الاتفاق على الاختلاف، وحماية التنوع وجعله من مقومات رص الصفوف لا تهديمها، تم انزلاق المجتمع العراقي إلى هاوية التناحر والاحتراف في أحداث سنوات عجاف بدأت في أوسط 2005 واستمرت ما يقرب من ثلاث سنوات، تطاحنت فيها المكونات المجتمعية حد الاحتراب والاقتتال، فحصل ذلك على أساس التناقض العرقي، والقومي، والديني، والمذهبي، والطائفي.
ولا يزال التناحر العشائري في العراق يهدد وحدة ورصانة البنية الاجتماعية، فيما استفادت مجتمعات أخرى من خاصية التنوّع، فجعلت منها مسببات لزيادة لحمة الأمة وسداها، كيف حدث ذلك، الإجابة حين صار التنوع الفكري متَّفَقاً عليه، لم يعد هناك أي مؤثر فاعل وقادر على إثارة مكامن الاختلاف بين مكونات الأمة أو المجتمع، وصار التناغم والانسجام هو البديل الأحسن، بعد أن تم الاتفاق على حفظ الاختلاف والنظر إلى التنوع على أنه دواء ومسبب لوحدة المجتمع، وليس مثار التناحر بين مكونات النسيج المجتمعي المتّحد.
بالنتيجة ما هو مُراد من علْية القوم ومفكريه وعقلائه، تعليم المجتمع وإقناعه بأن احترام الإديان والعقائد والمبادئ والأفكار المختلفة، هو الطريق الأقصر والأنجع لتقوية البنية الاجتماعية مدعومة بالعدالة في الحقوق والواجبات، وعدم تفضيل عرق أو قومية أو دين أو مذهب أو طائفة على أخرى، مهما كانت المبررات.
فالجميع متساوٍ ويُنظَر له وفق رؤية وطنية إنسانية تمنحه حق العيش الآمن والتعليم المجدي، وتطالبه بطرد التطرف والتعصب في الفكر والقول والرأي والسلوك، حينئذ يتراص المجتمع ويقوى ويتوحد تحت مظلة الهوية الوطنية، مع احتفاظ جميع الهويات الفرعية بكينونتها وفكرها ودينها ومذهبها، على أن يخضع الجميع للقوانين السارية التي تُسن وفق تشريعات مستفتى ومصوَّت عليها من قبل ممثلي الأمة أو الشعب.
يحدث ذلك وتتحقق هذه الدرجة من الرصانة الاجتماعية، حين يتحقق عنصر الاتفاق على الاحترام وعدم التجاوز على الفكر الآخر، من ضمنها الأديان والعقائد والأعراق، فالمهم في الأمر، أن يحتفظ مكونات المجتمع بهويتهم الخاصة، مع الإقرار بالهوية العليا كجامع رئيس للمجتمع المؤلَّف من تنويعات مختلفة من حيث الفكر والدين والمذهب والعقيدة وسواها، فالمهم في الأمر أن يتم الاتفاق على الاختلاف، وليس الخلاف، وأن يبقى الإنسان حرّا في الاختيار ونوع الانتماء، دون إجبار أو إقصاء وبعيدا عن القهر وأسلوب الترغيب والترهيب، ليكن الإنسان مخيّرا في اختياره للفكر والدين والعقيدة والمذهب، وهذه هي ميزة الدين الإسلامي التي ميزته بالفضاء الحر عن سواه من الأديان.
اضف تعليق