شكلت عملية التفجير في خانيونس في منطقة العين الثالثة بالأمس تطوراً نوعياً كبيراً للمقاومة الفلسطينية، وذلك ليس في الجانب العملياتي العسكري فحسب؛ بل في الجانب السياسي الاستراتيجي للمقاومة. فالعملية ليست هجومية بل دفاعية بحته؛ فثمة جنود إسرائيليين على الحدود مع قطاع غزة؛ قد استفزهم علم فلسطيني على سياج فاصل؛ فهرعوا لنزعه؛ ووقعوا في شرك عبوة ناسفة أخطئوا تقدير خطرها.
وبهذا الحدث ليس هناك ثمة عمل عدائي هجومي على الجنود الإسرائيليين من طرف غزة، لأنه وبموجب اتفاق الهدنة لعام 2014 لا يحق لإسرائيل أن تقترب قواتها العسكرية من السياج؛ كما هو الحال بالنسبة للمقاومة الفلسطينية، كذلك فإن إسرائيل تفرض منطقة عازلة داخل غزة تمنع من خلالها حتى المدنيين من الاقتراب من أراضيهم التي تقع بالقرب من السياج الفاصل، وتقتل في أحيان عدة كل من يقترب منه من خلال أبراج المراقبة؛ وآلياتها العسكرية التي تبرمج إلكترونيا لاستهداف كل من يقترب من السياج من فوق الأرض أو حتى من تحتها.
كما حدث عندما استهدفت إسرائيل نفقا تابع لحركة الجهاد الاسلامي قبل أشهر، وقالت في حينه أنه يمتد داخل أراضيها ويستهدف أمنها، وحكمت على كل من فيه بالموت بالغاز السام، واستشهد في حينه كل من كان في النفق؛ علاوة على المسعفين الذين حاولوا الإنقاذ، ولم تفترض إسرائيل أن هذا النفق ليس عسكريا أو أنه يستخدم لتهريب سلع لغزة التي تحاصرها إسرائيل جوا وبحرا وبرا، وتقبل في حينها العالم الرواية الإسرائيلية؛ ولم يحقق أحد في جريمة القتل بالغاز؛ وهي جريمة حرب؛ ولم يكلف أحداً من المجتمع الدولي نفسه في البحث في حيثيات تلك الجريمة؛ والتي راح ضحيتها أكثر من عشرة أشخاص تحت مبرر أن تلك الحدود هي حدود حرب، وأن الاقتراب منها أو تعديها هو عمل عدائي يستوجب الرد القاتل، وبنفس ذلك المنطق تعاملت المقاومة الفلسطينية، واعتبرت اجتياز دورية جولاني السياج الحدودي الفاصل والمسلحة بشكل علني عمل عدائي يوجب الرد وهو ما حدث.
وهنا أتى الرد الفلسطيني الطبيعي وبالمثل على استهداف النفق بنفس السياق وبنفس المنطق، وهنا يبرز لنا فكر استراتيجي سياسي جديد للمقاومة؛ يتسم بالحكمة والتخطيط المحكم السياسي والعسكري؛ وهو ربما أكثر ما فاجئ إسرائيل في هذه العملية الموجعة عسكرياً؛ والموجعة أكثر سياسيا في البعد الاستراتيجي لمعادلة الردع؛ لأنها كسرت وبجدارة وحكمة معادلة الردع الاسرائيلي لصالح معادلة متكافئة المنطق على جانبي الحدود، فاستهداف العسكريين سيقابل باستهداف عسكريين؛ واستهداف المدنيين عبر الغارات الجوية سيقابل باستهداف مدنيين عبر صواريخ المقاومة، وهو ما كان رد على الغارات بالأمس، وهنا تتغير قواعد اللعبة فعلياً، عندما تكون المقاومة استراتيجية وحكيمة ومدركة للأبعاد السياسية وللمعادلات والمناخ والظروف الإقليمية والدولية، فهي تعرف اليوم متى وكيف وأين ستضرب لتحصل على المكاسب العسكرية والسياسية.
والتساؤل الأهم هنا... هل ستسلم إسرائيل بالمعادلة الجديدة على طرفي الحدود مع غزة ولن تقوم بعملية عسكرية واسعة، وبإعتقادي الاجابة وفي ظل كل المعطيات الآنية فليس أمام إسرائيل على الأقل الآن إلا التسليم بقواعد اللعبة الجديدة مع غزة، وقبولها بمعادلة شبه تكافؤ الردع على طرفي الحدود مع غزة، نظراً لأن البديل لذلك يعني حملة عسكرية إسرائيلية ستقضي على ما تبقى من حياة في جثة غزة المكلومة، وإضافة للتكلفة الدموية والأخلاقية لتلك الحملة؛ فسيكون على إسرائيل لزاما تولى أمر اثنى مليون فرد وحدها، وعندئذ عليها أن تواجه كابوسا أكبر؛ ذاك الذي هرب منه رابين 1993ولحق به شارون في 2005.
إضافة إلى ذلك أن الوضع الدولي والاقليمي لا يسمح لإسرائيل بمغامرة من هذا النوع في غزة؛ نظرا لآثارها الكارثية على المخططات الأمريكية والإقليمية لترتيب الجغرافيا السياسية للمنطقة، والتي تشهد صراعات إمبراطورية بالغة الحساسية على مناطق النفوذ، فأي حرب على غزة في هذا السياق الآن ليست إلا مضيعة للوقت والجهد ولا طائل منها، علاوة على أنها ستشكل ضغط شعبي لن يكون لحكومات التحالف العربي الأمريكي القدرة على مواجهته؛ خاصة مع الموقف الأمريكي من قضية القدس فيما يعرف بصفقة القرن.
وآخر ما تريده اليوم إدارة ترامب هو استفزاز الفلسطينيين مجددا بحرب مدمرة رابعة على غزة، لكن في المقابل فان إسرائيل ستسعى إلى استخدام أدواتها الأخرى في ابتزاز غزة والضغط المقنن عليها ضمن سياسة إبقاء الراس فوق الماء حتى لا تموت غزة بشكل نهائي، وتدرك اسرائيل أن الحبل الذي يخنق غزة هو بيدها، وبصمات حكوماتها المتعاقبة مطبوعة عليه.
اضف تعليق