عملية عسكرية دامية، نفذتها القوات الأمريكية ضد ميليشيات عشائرية، عربية – سنيّة، في مناطق الشرق السوري، راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى، بذريعة درء هجوم "غير مبرر"، كانت هذه المليشيات تنوي تنفيذه ضد القوات الأمريكية وحلفائها في المنطقة، قبل أن يخرج علينا الوزير/الجنرال جيمس ماتيس بوصف غريب للهجوم: "مربك"، وهو وصف أقل ما يقال فيه، أنه يستبطن اعترافاً بأن العملية الأمريكية لا مبرر لها، وأن قيادة التحالف، لم تكن لديها معطيات ملموسة، تؤكد أن هذه القوات، كانت تشكل تهديداً للجنود الأمريكيين أو حتى لقوات "قسد"، كما أنه لم يكن لديها أي تأكيد حول وجود قوات تابعة للنظام أو للمليشيات التي تصنف محسوبة على إيران، من ضمن المجموعات التي تعرضت للقصف الوحشي بطائرات الأباتشي وصواريخها.
لكن "ارتباك" ماتيس، لا يجوز أن يعني للحظة واحدة، أن الضربة الأمريكية، كانت مترددة ومرتبكة، بل كانت حاسمة ودامية، والأهم أنها جاءت محمّلة بالرسائل البليغة لأطراف عدة منها:
(1) أن الوجود العسكري الأمريكي في هذه المنطقة، وبرغم كل ما تقوله موسكو وحلفائها عن "عدم شرعيته"، باقٍ لأجل طويل، كما شدد على ذلك، الوزير تيلرسون في استراتيجيته الجديدة لسوريا...
(2) العملية الأمريكية، هي بمثابة رسالة لموسكو، بأن واشنطن عاقدة العزم على "تهشيم" انتصارها في سوريا، وتهميش دورها المقرر في مسارات الأزمة السورية...
(3) وهي رسالة إلى تركيا بالأخص، بأنها ومليشياتها التي تتهدد بـ"غزوة منبج" ستلقى المصير ذاته، إن فكرت أنقرة، بنقل تهديداتها فضاء الأقوال إلى ميدان الأفعال، منبج وليس عفرين، هي ساحة الاختبار الجدية لصراع الإرادتين التركية والأمريكية، وواشنطن قررت على ما يبدو، ردع أنقرة ومنعها من اختبار جدية النوايا الأمريكية...
(4) وهي رسالة إلى دمشق، مفادها أن "الحرب لم تضع أوزارها"، وأن الأسد ليس في وضعية فرض شروطه وإملاءاته للحل النهائي للأزمة السورية.
العملية محمّلة بدلالات المكان والزمان، فالشمال والشمال الشرقي السوريين، هي ساحة نفوذ لواشنطن، وساحة نفوذ مستدام، وخطط واشنطن لقطع "الممر البري" بين طهران والضاحية الجنوبية من بيروت، ما زالت قائمة برغم الاختراقات التي حققها الجيشان السوري والعراقي على طرفي الحدود الدولية... وفي دلالة المكان، فإن العملية جاءت لتكريس سيطرة حلفاء واشنطن على أكبر حقول الغاز والنفط، وأهم "عقدة مواصلات" من منظور "حرب الأنابيب" التي كانت في خلفية الأزمة السورية، قبل اندلاع الأزمة وبعد تفاقمها.
أما توقيت العملية وزمانها، فتلكم قضية أخرى، فهي من حيث الصورة الأكبر، تأتي في سياق سياسة أمريكية هجومية، صنفت روسيا (والصين)، في خانة الأعداء، وإيران (وكوريا الشمالية) في عداد الدول المارقة و"التنظيمات الإرهابية" في عداد "الأشرار"... وهي تأتي في سياق إعادة بعث "أزمة الكيماوي" في سوريا، والتلويح مجدداً بتوجيه ضربات جديدة للجيش السوري، وعلى لسان أكثر من مسؤول الأمريكي (وأوروبي)، وهي تتزامن مع تكثيف إسرائيل لعدواناتها على سوريا، وتلويحها بتوجيه المزيد من الضربات ضد أهداف للجيش السوري وحلفائه.
نحن إذن، أمام قطعة واحدة من "بزل" أكبر"، تكاد ملامح صورته النهائية، كلما كشفت واشنطن عن قطعة جديدة من قطعه، وهي صورة لا تبعث أبداً على الاطمئنان، بل وتبدو خطوة إضافية في سياسة "حافة الهاوية" التي تتبعها الولايات المتحدة في سوريا وعدد آخر من أزمات العالم المفتوحة (الأزمة الكورية مثالاً).
والحقيقة أن سياسة "حافة الهاوية" التي تعتمدها واشنطن، تبدو "مزدوجة" هذه المرة... فهي تقامر من جهة، بصدام لا ترغب به، ولا يرغب به أحدٌ، مع روسيا وإيران والنظام في دمشق... وهي تغامر من جهة ثانية باحتكاك لا تريده، ولا يريده أحدٌ، مع تركيا على تخوم المسألة الكردية، بدءاً من منبج... والغريب أن رفع منسوب "المقامرة" في السياسة الأمريكية في سوريا، لا يقترن برؤية حول ما الذي تريده واشنطن من هذا البلد وفيه، فهي لا تكف عن القول بأنها هناك لمحاربة "داعش" فقط، وهو ادعاء لم يعد يجد من يصدقه، لا من بين حلفاء الولايات المتحدة أو من بين خصومها.
نحن نعرف ما الذي "لا تريده" واشنطن في سوريا... هي لا تريد نصراً روسياً مبيناً هنا، ولا تريد احتكاراً روسياً لمسارات الحل ومآلاته... هي لا تريد إيران ولا أي من المليشيات المحسوبة عليها... هي لا تريد الأسد وأركان نظام... لكننا لا نعرف ما الذي تريده واشنطن في هذا البلد، باستثناء حفظ أمن إسرائيل وتفوقها... لا تريد الاحتكار الروسي لمسار الحل السوري، ولا تتقدم ببدائل ذات مغزى، ولا تبدي حماسة لمسارات الحل السياسي على اختلافها... لا تريد إيران، ولا تدري كيف تتخلص من نفوذها، لا في سوريا ولا في العراق، لا تريد الأسد، ولا تتقدم بمن سيخلفه وأركان نظامه... لا تريد تقسيم سوريا، ولكنها تدعم طموحات الأكراد الانفصالية، إن لم يكن بصورة رسمية، فبصورة فعليه... هي لا تريد الحرب ولا تريد السلام... جل ما تبغيه، إبقاء الجرح السوري النازف مفتوحاً، طالما أن الدماء التي تراق منه، هي دماء خصومها وأعدائها، وطالما أنها قادرة على القتال حتى آخر كردي سوري، وآخر مقاتل مرتزق من فلول داعش والجماعات السلفية الذين يجري تجميعهم تحت مسميات شتى، لقتال روسيا وسوريا، وليس لقتال داعش أو ملء فراغه أو منعه من العودة.
الولايات المتحدة موجودة في سوريا، لاستنزاف روسيا ومحاصرة إيران وابتزاز تركيا، حتى وإن تطلب الأمر، إطالة أمد الأزمة لسنوات سبع عجاف أخرى، وفقد السوريون نصف مليون قتيل آخر، ولم يبق في سوريا حجر فوق حجر.
اضف تعليق