ربما لم يمر على التجربة الديمقراطية في العراق ما تواجهه من تحديات وعقبات اليوم لمجرد إجراء الدورة الجديدة من الانتخابات البرلمانية للمرة الرابعة، من أزمة تشكيل الهيكل الاداري "للمفوضية المستقلة للانتخابات" ومحاصصة منتسبيها من قبل الاحزاب السياسية، ثم ظهور الاصوات المطالبة بتأجيل الانتخابات، ومشاكل اخرى، حتى بلغ الامر لأن يتعرض قانون يسنّه البرلمان الحالي بعدم جواز الترشيح للدورة القادمة لمن لا يحمل شهادة "بكالوريوس"، للنقض من بعض النواب، الذين طعنوا في القانون امام المحكمة الاتحادية! واتضاح الأمر من قبل عضو في اللجنة القانونية في البرلمان العراقي؛ كامل الزيدي، بأن الطعن جاء من قبل عدد لا يستهان به من النواب الذين يحملون شهادات الاعدادية وربما دونها، وهؤلاء ربما ينوون تجديد ترشيحهم للانتخابات القادمة!
أحلام الخروج من الديكتاتورية
مجمل الاسقاطات السياسية في نمط الحكم السائد في العراق، بعد مرور حوالي خمسة عشر سنة، دفع بعامة الناس الى طرح التساؤل الجوهري: ما الذي جنيناه من النظام البرلماني لإدارة شؤون البلاد؟ وهل حقاً بإمكان هذا النمط من الحكم القضاء على ظاهرة الديكتاتورية التي التصقت بتجربة النظام الرئاسي؟
ان الشعب العراقي، وسائر شعوب المنطقة، والعالم الثالث، عاش محكوماً لزمن طويل من قبل حكام مستبدين بالحكم والثروة، ولم يجرب مطلقاً المشاركة في صنع القرار، او ما يسمى بالمشاركة السياسية، وقد استمر الوضع حتى ظهور الانظمة السياسية المتمخضة من الاستعمار، سواءً في شكلها الملكي او الجمهوري، فالسلطة المطلقة كانت للعائلة او الحزب او حتى للشخص الواحد، فيما ليس للشعب سوى الطاعة والولاء المطلق في مقابل توفير الخدمات وفرص العمل وضمان حياة آمنة للمواطنين، وإذن؛ فان الانطباع عن الحاكم او المؤسسات الحاكمة، متمثلة بالبرلمان والقضاء والحكومة، انها "حكومة خدمات"، ولم يفكر أحد –أو الغالبية العظمى- بان يكون له دور في صناعة القرار والمشاركة في الحكم، كما جاء في اساس النظرية الديمقراطية.
وفي الجانب الآخر من هذا الواقع الاجتماعي، لاحظنا شريحة تدّعي الوعي السياسي وتعد بصياغة ثقافة سياسية جديدة، تطلق وعوداً عظمى لم يسمع بها الناس، فهي اكبر بكثير من الماء والكهرباء والصحة وفرص العمل والسكن، لتصل الى حد مشاركة الناس في صنع القرار، وأن مشاركتهم في الانتخابات ووضع آرائهم في صناديق الاقتراع، يعني مشاركتهم في تشكيل الحكومة التي يريدون لان رئيسها هو بالضرورة رئيس الكتلة الفائزة باغلبية الاصوات في الانتخابات، ولكن هل يصنع –حقاً- ما يريده الناس الذين انتخبوهم.
علماء السياسة الذين كتبوا في أنظمة الحكم وأنماطها، كشفوا – ولو متأخرين- عن تناقض مريع بين مفهوم الانتخاب وبين مفهوم الديمقراطية، فاذا كان الانتخاب قاعدة للنمط الديمقراطي، فانه هاجس للنخبة السياسية التي تستفيد من الانتخاب نفسه، "فالبرجوازية التي كانت تستخدم الانتخاب لنزع السلطة من الارستقراطية، لم تكن ترغب بان تنزع منها سلطتها بنفس الطريقة، ثم تطورت فكرة الانتخاب وأولد مؤسسات تعلب دور الوسيط بين المتخبين والناخبين، في مقدمتها؛ الاحزاب السياسية"، كما جاء في "المؤسسات السياسية والقانون الدستوري" للعالم الفرنسي؛ موريس ديفرجيه، بما يعني ان هذا التشكل السياسي الجديد (الاحزاب) تلعب دور المحافظ على بصمات الشريحة السياسية في أروقة الحكم، وللوقوف امام أي تواجد مؤثر للجماهير في مؤسسات الدولة والحكم.
هذه التقييم الواقعي لفكرة الانتخاب، وجد مصاديقه في معظم التجارب الديمقراطية – إن لم نقل جميعها- التي حصلت في بلادنا الاسلامية، ومنذ اول تجربة ديمقراطية حصلت في ايران عام 1905، وكان من المفترض تقليص الصلاحيات من الملك وإعطائها الى مجلس النواب، فكانت النتيجة؛ تحول الصلاحيات الى امتيازات سياسية لاشخاص و احزاب تحركها جهات اجنبية لا تعبر عن هوية الشعب الايراني، ولا عن هموم وتطلعاته، وبلغ التسافل بهذه التجربة أن تحكم بالاعدام شنقاً بحق عالم دين مناضل دعى لأن تكون الديمقراطية حقيقية وتعبر عن روح الشعب الايراني، وليس عن مصالح جهات اجنبية، وتم إعدام آية الله الشيخ فضل الله النوري بتهمة "معاداته لإرادة الشعب"!
ان نجاح فكرة الانتخاب لتأسيس النظام البرلماني يتطلب تثقيفاً منهجياً يمتد لسنوات، يبين للناس كيفية ممارسة حرية الرأي والتعبير وصنع الرأي العام والتأثير على القرار السياسي، من خلال تأسيس منظمات مجتمع مدني تعبر عن الواقع الاجتماعي، واتحادات ونقابات فاعلة ذات مصداقية، وهو ما جرى في الغرب خلال القرن الماضي، ومن أجل إنضاج التجربة الديمقراطية التي انطلقت منذ خمسة قرون في الغرب، وتحديداً في بريطانيا، ثم توسعت الى فرنسا وسائر البلاد الغربية، وتكون بالمستوى الذي نراه اليوم، علماً ان علماء السياسة ما يزالون ينظرون بعين الريبة الى عديد الثغرات والتناقضات في ذات مفهوم الديمقراطية وتطبيقاته التي تبتعد عن مصالح الشعوب الحقيقية، بينما تقترب لصيقاً بمصالح شركات كبرى و أصحاب رساميل .
لماذا يخشون النظام الرئاسي؟
يروج المتشبثين بالنظام البرلماني لهاجس الديكتاتورية الفردية اذا عاد النظام الرئاسي الى العراق، وان من شأنه تكرار تجربة صدام ومن سبقه في الحكم، متناسين او متغافلين عن أن الشعب العراقي يلمس بكل حواسه، كيف ان الديكتاتورية انتقلت من الفردية الى الحزبية والفئوية، واذا كان ثمة شخصٌ واحد يرتكب اخطاءً في طريقة عمله، او يشذّ عن جادة الصواب، وبالامكان محاسبته، فان نواب البرلمان في العراق، وبكل صفاقة يختبئون خلف احزابهم وكياناتهم السياسية رغم ما احتوشوه من مليارات الدولارات، ليكونوا في مأمن من المسائلة والمحاكمة، -إن وجدت طبعا-.
وبات واضحاً للجميع الفائدة العجيبة للنظام البرلماني في العراق، فقد كان له الفضل في تغذية احزاب سياسية وتغطية نفقات وجودها السياسي والاعلامي في الساحة، من خلال القوة التي تتمتع بها الحكومة المنبثقة من البرلمان وعلاقة التخادم بينهما، ومن اجل ذلك يرفض جميع الساسة ومن هم في أروقة الحكم بالعراق، أي صوت يدعو الى تجربة النظام الرئاسي، ولو على صعيد المستقبل، لمعرفتهم أن الحكومة في النظام الرئاسي لن تكون بالقوة والنفوذ والقدرة على التلاعب بالمقدرات كما هو الحال في النظام البرلماني.
العالم السياسي الفرنسي دوفرجيه، ينفي الانطباع الخاطئ عن قوة رئيس الجمهورية، فان "للرئيس الحرية بالتصرف كما يشاء في إطار صلاحياته الحكومية والإدارية، ولكن حصره في أطر القوانين والموازنة هو أكبر منه في النظام البرلماني حيث تشارك الحكومة بقرار البرلمان في هذا المجال"، ويستشهد بمثال الحكومة البريطانية التي بامكان الحكومة الطلب من مجلس العموم التصويت على القوانين التي يريدها، بالمقابل لدينا مثال النظام الرئاسي في الولايات المتحدة، وهي يفترض ان تكون أقوى دولة في العالم، بيد ان النظام السياسي فيها من أضعف الانظمة في العالم، حيث يواجه الرئيس الاميركي دائماً، صعوبات في إقرار المشاريع التشريعية والمالية من قبل الكونغرس، لذا يصف دوفرجية النظام الرئاسي بانه "ينطوي على كوابح قوية جداً، بيد ان محركه ضعيف وغير مجهز بمسرّع"!
ان أخطر الثغرات في التجربة الديمقراطية وتحديداً؛ في تشكيل النظام البرلماني، غياب ثقافة المسؤولية بين المجتمع والدولة، او بين الناخب وبين المنتخَب، هذه الثقافة التي بشر بها الاسلام وأشارت اليها النصوص الدينية، فضلاً عن التجارب السياسية الناجحة في صدر الاسلام، اكثر تطوراً وشمولية من الافكار التي توصل اليها علماء الغرب، ومنها "العقد الاجتماعي"، فالمسؤولية فكرة حضارية تجد مصاديقها في القاعدة الجماهيرية وايضاً في قمة القيادة، بيد ان هذه الفكرة لم تجد مكاناً لها في نظام المحاصصة السياسية والحزبية بالعراق طيلة السنوات الماضية، ولكن يمكن ان تتجسد في شخص يتم اختياره من بين اشخاص عدّة يتنافسون ببرامجهم ومشاريعهم العملية بعيداً عن أي اعتبار قومي او عرقي او سياسي او حتى طائفي.
اضف تعليق