كيف تحمي الأمم وجودها وكينونتها من خطر الانهيار؟ سؤال لا تسأله إلا الأمة التي اكتوت بنار الجهل والتناحر والاقتتال والحروب، ونتيجة لذلك وجدت نفسها قابعة في قعر الحياة، تعاني من شظف العيش، ومن كل الأمراض التي فتكت بنسيجها الاجتماعي، ودمّرتْ بنيتها الأخلاقية، ونشرتْ فيها الفساد الفكري ومن ثم المادي، وتهرّأَ هيكلها السياسي، ولم يبقَ منها إلا صورة لأمة من ورق.
بالطبع ثمة إجراءات فكرية عملية، ينبغي أن تفكّر فيها العقول المتقدمة للأمة، توضع على الورق كخطوات ممكنة التطبيق، مع توافر عناصر التفرّد، والتركيز المتبصّر على طرائق التطبيق، والأهم من هذا وذاك، وضع آلية عمل مستمدة من خبرات محلية وعالمية، مختصة في الكيفية التي تتصدى لرأب الصدع الذي تعاني منه الأمة، ولا شك أن جميع الأمم والمجتمعات تمتلك أرصدة واسعة وخزين هائل لتنفيذ الخطوات الإجرائية الكفيلة بالتصدي لعوامل الانهيار.
ولكن الفارق بين الكثير من الأمم والمجتمعات، أن هناك منها من يكون على استعداد للتغيير، ومواجهة الانحدار، وإيقاف عملية التدحرج من أعلى القمة إلى آخر السفح، وهذا الاستعداد وحده كفيل بإيقاف مسلسل التدحرج نحو الأسفل، ولكن هناك أمم ومجتمعات لا يشغلها الانحدار، ولا تجد فيه من يتهدد كينونتها بالانهيار، فتغض الطرف ولا تبالي بذلك، حتى عقولها الكبيرة تكون مخدَّرة ومائلة إلى الدعة والمراوحة والاجترار، في حين أن المواجهة في قمة أوارها، وقد تكون المرحلة حرجة إلى درجة أن الانهيار يتربص بالأمة ويلوّح للمجتمع بالسقوط المريع.
يستدعي الحال رؤية إستراتيجية ذات طابع شمولي يضم في مداره مجالات الحياة كافة، بدءا من إعمال الفكر، وتطوير التعليم، ودفع الاقتصاد قُدُما، وترميم البنية السياسية، واعتماد أسلوب الاحتواء، وطمر نعرات العنف كلها، ووضع حد لآفة الفساد، ومحاصرة وباء الخمول، واعتماد الاتقان منهجا فكريا سلوكيا حياتيا لا حياد عنه مطلقا، مع العمل الجاد الكفؤ المنظم على غرس مبادئ المواطنة، لتعميق العلاقة بين الفرد والوطن، انتقالا إلى بناء علاقة حب مصيري بين الوطن وأبناء الأمة.
وثمة مبدأ الاكتفاء الذاتي ليس في مجال الاقتصاد وحده، وإنما يتعداه الى الاكتفاء الشمولي، في الطب مثلا، والتعليم، ونشر مبدأ الإتقان في كل مفاصل الحياة، على أن يتم كل هذا في مدار البنية الأخلاقية الباهرة، فإذا ما توافرت المنظومة الأخلاقية في السياسة والقيادة والاقتصاد والصحة والتعليم والزراعة والصناعة وفي التعاملات اليومية مجتمعة، هنا سوف يكون هناك ضماناً راسخا للتقدم، والانتقال من القعر الساكن في أسفل الخط البياني للتقدم، صعودا وتسلقا إلى القمة في السياسة والاقتصاد والعلم وسوى ذلك من مفاصل الحياة الأخرى.
هكذا نحن نقف بإزاء خطوات لا يمكن النصل منها في حال قرّر أفذاذ الأمة وكبارها، في العقول والإرادات والتخطيط والتفرّد، وحين نروم البناء والتقدم باللاعنف، ستلوح أمام بصائرنا أهم الخطوات التي تقود المجتمع ناحية التغيير الأحسن، من هذه الخطوات وأهمها ما يلي:
- اعتماد التطوير الفكري ضمن سلسلة إجراءات علمية مدروسة لا حياد عنها.
- ترميم المنظومة الأخلاقية في جميع المجالات بدءا من السياسة، مرورا بالاقتصاد والتعليم، وسوى ذلك من مجالات وحقول عملية حاسمة.
- الشروع في عملية مكافحة الفساد، عبر مخطط هائل واسع متمدد يعتمد الصبر إستراتيجية مبدئية لقطف النتائج المضمونة.
- إعطاء الحيز الأوسع من التفكير والتخطيط لتطوير البنية السياسية، لأنها العنصر الأهم في عملية البناء والتصحيح، فإن صحّت السياسة صحّ كل ما يقع تحت قبضتها ويصح العكس تماما.
- أن يقوم النشاط المستدام لغرض غرس مبادئ المواطنة وتلاحم البنية الاجتماعية التي ستأتي كنتيجة منطقية لاعتماد المبدئية العالية للمواطنة، فإذا أحب الفرد وطنه، سيُفنى من أجله ويكون هويته التي تمثله إضافة إلى دينه وثقافته وعقائده أيضا.
- وتحصيل الحاصل للتقدم والتطور أن تعتمد المؤسسات الفكرية التعليمية والمعنية الأخرى، سياسة التنمية الاقتصادية والاكتفاء الذاتي، فهذان الركنان كانت قد اعتمدتهما الأمة اليابانية بعد انهيارها، فاستقامت هذه الأمة واستيقظت من نومها الطويل وطردت من واقعها وتاريخها مسلسل الانحدار، لتصبح الأمة اليابانية في القمة، وهذا جعل منها درسا لكل الأمم المتأخرة التي تضع عينها على القمة لأنها قابعة في أسفل القائمة أو قاعدة التل.
- ويبقى لدينا ما هو أقوى وأهم وأكثر تأثيرا من سواه على رحلة التقدم والانتقال من ضفة التخلف إلى صفة الازدهار، عبر آلية احترام القانون وحماية الحريات والرأي وبقية الحقوق المدنية، التي يعد احترامها وصيانتها والحفاظ عليها معيارا رئيسا يُقاس في ضوئه تمدّن الأمة ومدى تطورها وطرائق انتقالها مما هو أسوأ إلى درجة ارتقاء فذّة.
هذه السلسلة من الخطوات لا يمكن وضعها قيد التنفيذ الواقعي، إلا إذا توافرت المسببات العلمية العملية لتنفيذ الخطط الموضوعة في هذا المضمار، مع التأكيد على أن التنفيذ قد يواجه الكثير المعوقات، خصوصا ما يتعلق بالمفاجآت غي المحسوبة ضمن عمليات التخطيط.
وقد قيل ضمن علم التخطيط أن الأهم في هذه العملية ليس أن نفرش الطريق بالورود، وإنما نكسوها بالمصاعب والتوقعات الصعبة، وقديما قيل في المثل الشعبي الدارج (عليك أن تتحزم للثعلب بحزام أسد)، أي على الأمة التي تروم الانتقال من أدنى السفح إلى القمة، أن تحسب أقسى الحسابات وأصعبها، فإن حدثت، فأنت قد حسبت حسابها، وإن لم تحدث فإن صعودك إلى القمة سيكون مضمونا وسريعا في نفس الوقت.
الختام.. الأمة المتحركة بتخطيط وتنظيم وعلمية، سوف تتفادى الانهيار، وتمسك بالقمة الأعلى، وعليها أن تبقى هناك في القمة، وهذا أيضا يجب أن يُحسَب حسابه منذ لحظة الشروع الأولى في عملية الانطلاق إلى الأعلى، وسوف تكون الأمة على موعد مع الازدهار، ولكن بحسب الخطوات المرسومة في أعلاه، خطوة خطوة، بتأنٍ ومثابرة وعلمية وإصرار لا يلين قط.
اضف تعليق