q

سنحصر موضوعنا هذا بالمركَّب البشري العراقي المصنَّع من طبقات متباينة، ونتناول بالأخص الطبقتين السياسية والشبابية منها، تبسيطا لمنهج الكتابة، وتدقيقاً في الوصول إلى الهدف، فالأهم يجيء أولا في تراتبية التدقيق، وهو كشف الطبقة المهدورة في العراق، ومن يقف وراء استهدافها، وهل ثمّة تعمّد وقصدية في الاستهداف أم يحدث الأمر كمحصّلة طبيعية للتفاعلية المجتمعية السياسية، وفي الأخير ما هي الأسباب الموظَّفة في هذا الإطار وتصبُّ في صالح من؟.

ولنبدأْ بتحديد الهدف المباشَر، فالشباب العراقي هو الطبقة المهدورة في مجتمعنا، وانطلاقا من هذا التصريح، تتوالد جملة أسئلة، منها هل فعلا شبابنا مستهدَف، الجواب يعيدنا الى الوراء قليلا أو كثيرا، فالطاغية صدام عندما شعر بالخوف من الشباب، فرض عليهم فكرا شوفينياً محدِّداً لمواهبهم وفاعليتهم، وحين قفز الشباب فوق هذا الشَرَك المنصوب غيلةً، بادر الطاغية الى استلهام خطط وأحابيل من سَبقه في إلهاء الشباب وتكبيلهم بما لا يعنيهم، وبما لا طاقة لهم به، فكانت سلسلة الحروب وعسكرة الشعب، حماية للكرسي المهدَّد بالانهيار.

فمتى تُستهدّف الطبقة الشبابية؟ الجواب حينما تُصبح مصدرَ قلق للنظام السياسي، ولماذا تُهمَل هذه الطبقة، ويُزَجُّ بها في ميادين لا علاقة لها بالفاعلية الشبابية، وهذا ما حدث تحت خيمة النظام الدكتاتوري الذي كان لا يستحي ولا يخاف، (إن لم تستحِ فافعل ما شئت)، التساؤل الجوهري الفارض لمضمونه هنا، لماذا يُستهدَف الشباب العراقي في هذه المرحلة أيضا، هل ثمة قصد مسبَّق، فالتداول السلمي والانتخابات أبعدت شبح الانقلابات، وحيَّدت خطر الطبقة الشبابية أو غيرها على السلطة، إذاً ثمة أهداف مستورة وراء إهمال وإلهاء وتخدير الشباب اليوم.

هل يعرف القادة أنّ طبقة الشباب مهدورة الطاقات والمواهب، وهل يقدّروا بميزان العقل السياسي، كم هي الخسائر التي تسقط من ملْكية الشعب العراقي حين يُهدَر المجهود الشبابي؟ إنهم يعرفون تمام المعرفة بما يحدث من هدر مخيف، ولكن سياسة غض الطرف، البلادة المقصودة، الإهمال المتعمَّد أساليب لا ينصرف عنها المسؤولون، ولكن إذا لم يكن الكرسي مهدّدا، فهل ثمّة هدف أهم وأكبر.

لقد تم استبدال (عرش الطاغية)، بالجشع السياسي الفاحش، فبعد أن اطمأنت الزمرة السياسية لتداولية السلطة، لم يعد سقوط العرش شبحا مخيفا لها، فتم استبدال الخوف على الكرسي، بالخوف من تفويت فرصة الغنى المادي، فصار هذا الهدف هاجساً للمنظومة الوظيفية، من أدنى موظّف الى الأعلى، وصار المنصب بقرة حلوب يجب أن تدرّ على من يمتلكها حليبا وأموالاً وذهباً بعد علْفها ومسخها، فهل يستحق الشباب أن يُهدَروا في نظر الراصدين لحركة المال والتخطيط للسيطرة عليه واكتنازه؟، بالآخر فإن الفكر الاستحواذي يفرض على المسؤول تجميد الشباب وإلهائهم.

فهل باتت الطبقة الشبابية في العراق مهدورة فكرا وقولا وواقعا، وقد ناقش مفكرون طاقة الإنسان العربي المهدور، وألّف بعضهم كتب تصدَّت لهذا الحقل، أنواعه، أسبابه، فرضياته، الكاتب مصطفى حجازي مؤلف كتاب الإنسان المهدور، يختار الإنسان العربي ليقدم عينة دراسية تطبيقية لمفهوم الإنسان المهدور، ويرى بهذا الصدد أن علم النفس في الوطن العربي مقصّر جدا في تناول كثير من قضايا الإنسان العربي المصيرية والوجودية، وذلك لأسباب عديدة منها أننا مازلنا تابعين لعلم النفس الغربي الذي نشأ وتطوّر لخدمة احتياجات المجتمع الصناعي في الغرب تحديداً، وهناك سبب مهم آخر يتمثل في تعاظم نظام المحظورات الذي ما انفكّ يتفاقم في عالمنا العربي، حيث يحرَّم على الباحثين الخوض في تفاصيل تعتبر ممنوعة على التفكير الحرّ نظرا لما تشكله من خطورة على فضح النظام السياسي العربي، أما العراق فهو لا يذهب بعيدا عن أقرانه، ولكن هناك إيغال وربما غلوّ في تحييد الطبقة الشبابية بطرق ووسائل شتى.

وقد لا ينحصر الوضع بإهدار الطاقة أو الكفاءة، فيتعداها الى ما هو مجسَّد فعلي يطول الذات والكينونة بشقّيها المادي والفكري، فيُصبح مفهوم (الهدر أكثر شمولية من التصدي لطبقة بعينها، فالهدر بحسب حجازي يبدأ من هدر الدم إلى هدر الوقت مرورا بهدر الفكر والوعي والإبداع)، وعندما يصير الوعي والإبداع هدفا للهدر المتعمَّد، فتكون النتائج على قدر مفزع من الخطورة.

وربما الأخطر من هذا وذاك، عندما يترصّد الإهدار طبقة أو فئة أو مسمّى بعينه، فيأخذ (شكل عدم الاعتراف بالطاقات والكفاءات أو الحق في تقرير المصير والإرادة الحرة وحتى الحق بالوعي بالذات والوجود، لذلك يعتبر حجازي أن الهدر أكثر خطورة من القهر). مع أن القهر والهدر يهدفان الى نتيجة متطابقة مؤدّاها سلب الإنسان قدراته المختلفة أو تجميدها لجعلها ضمن ما يستهدفه رعاة الهدر والعامدين له توظيفاً لحماية مآربهم، وليس ثمة فارق كبير بين ما حدده حجازي وبين ما يحدث في العراق، مجتمعاً وطبقة شبابية، وساسة جشعهم سدَّ آذانهم بالشمع وعيونهم بالقذى.

لكي يثبت القادة في العراق خطل مثل هذه التحليلات، يجب أن يثبتوا العكس، فإذا صار شبابنا محميين من مظاهر الإلهاء عبر التخدير، وقتل الوقت في الكازينوهات والمقاهي والأرجيلة، وإذا نهضت رؤوس أفكارهم وأفعالهم، طاقاتهم ومهاراتهم، وإن شاركوا بفكرهم المتوقد وحماستهم في عمليات البناء، فإن استبدال مثل هذه المنظورات يغدو ممكنا، وتتعالى مناسيب الثقة بمن يقود البلاد.

في حالة العكس من ذلك، ومع مواصلة الهدر السياسي والإداري لصانعي القرار، البلادة، الإهمال، وسياسة الإلهاء التي تحاصر الشباب، فإن الحال سيختلف، ورائحة الفضيحة تزكم الأنوف، وستبقى الثقة معدومة بين القطبين، مع استدامة ضرب الطبقة المتحمسة بالصميم عبر سياسة الإهدار التي هي في الحقيقة، ليست مقصورة على الدور الشبابي بقدر ما هي عابرة الى طبقات أخرى، ليغدو المجتمع كلّه ملْهيّاً لاهيا مخدّرا دائخاً، بظروفه وتأمين حاجاته الأساسية، فيظهر ذلك بفشل عام يطول الجميع، معالجته تخضع لتخطيط إجرائي من ضمنه هذه التوصيات للمعني بالأمر:

- انفصام تام بين صانع القرار وأسلوب الإهمال والبلادة.

- التخلي عن سياسة الإلهاء والإشغال.

- منح الطبقة الشبابية الفرص التي تستحقها.

- ملء الفراغ الشبابي.

- الأخذ بالاعتبار الأعداد الضخمة للشباب غير المتعلّم.

- التخطيط لاستثمار الشباب غير المدعم بالمهارة.

- فتح مشاريع لاستيعاب القدرة العملية للشباب بعد تأهيلهم الخبروي والمهني.

- اعتمادي الجدية والعلمية في التخطيط والإدارة والتجسيد.

- استقطاب التنمية الفكرية وضخ الوعي بشكل مستدام.

- أن تُعطى لمراكز الدراسات المحترفة، أدوارها في إرشاد المسؤول.

وثمة ما يزيد مما ذُكر، من خطوات تعيد اندماج شريحة الشباب شبه المعزولة مجتمعياً، والمقصيّة عن التفكير الحكومي كليّاً، مما أدى ذلك الى عزلتها ذاتياً، فتفسخّتْ ثقتها بنفسها وبمن يُسأَلُ عنها، ومنذ الآن صعوداً تجب خطوات حاسمة تستثمر هذه الشريحة بالأسلوب الذي يجري في الدول النموذجية.

اضف تعليق