يعود تاريخ القدس الى أكثر من خمسة آلاف عام، وأقدم الاقوام التي سكنتها هم الكنعانيون الذين أطلقوا أسمها الخالد "أورسليم "أو "أور سالم" وتعني مدينة السلام، وقد ذكرتها التوراة باسم "اورشليم"، ولأنها أقدم مصدر ذكرها بهذا الاسم فاعتبرت كلمة عبرانية، لكن كلمة أور تعني المدينة في اللغة السومرية القديمة وهي بهذا أقدم ذكرا من العبرية والتوراة. واختلف في معنى سليم أو سالم بين أسم الملك الذي بنى المدينة وهو ليس من الملوك العبرانيين أو السلام الذي أصله السلم والأمان وهو المعنى السائد الان في الاذهان.

ويبدو أن التوراة المنحولة الى أنبياء بني اسرائيل استخلصت هذا الاسم لتعيد بنائه شكلا ومضمونا بناء عبريا – اشتقاقا من العبرية لغة - في السرد الديني اليهودي وتكوينا عبرانيا – اشتقاقا من العبرانيين شعبا - في التاريخ اليهودي الذي صنعته ذاكرة شعب وقع في مازق الوهم بالاختيار الالهي، وفي ظل هذا المأزق عاش هذا الشعب قرونا من الاضطهاد والمعاناة، فكانت احلام السلام تراوده، ولان الوهم لا ينتج الا الوهم فأنتجت ذاكرة الوهم لدى هذا الشعب حلم العودة الى الأرض التي عبروا اليها في مرحلة من مراحل تاريخهم الغابر ولذلك سموا بالعبيروا ومن هنا جاء أسمهم في التاريخ القديم بالعبرانيين لانهم عبروا الى هذه الارض أور سليم التي تخلصوا فيها من شظف العيش في البدو الذي كانوا عليه ومن عنت طغيان المصريين الفراعنة، فكانت جنة الارض التي سكنت ذاكرتهم وتوارثها الوعي الجمعي لديهم.

لكن الوهم المنتج للضلال وهم الشعب المختار جعل احتكاكهم وجوارهم لشعوب الارض ودول العالم متوترا وحساسا وتحكمه الاساطير والخرافات المتبادلة بينهم وبين تلك الشعوب ويحكمها مخيال من العداء غير المبرر بالنسبة للطرفين، فكانت هياكلهم الدينية التي ظلت تشكل سر اساطيرهم الدينية في مدينة أورشليم تدمر وتهدم على أيدي تلك الدول والشعوب.

هكذا دمّر سنحاريب الاشوري ونبو خذ نصّر الكلداني والرومان الوثنيين ولثلاث مرات هيكلهم الديني، وهنا تبدو المفارقة الاكثر خطرا في تاريخ هذه المدينة، فالمدينة التي يشتق اسمها من السلام وتسمى أورشليم مدينة السلام هي المدينة الاكثر خرابا ودمارا على مر التاريخ البشري، وفي بعض الاحصائيات التاريخية فان دمارها وخرابها قد حدث اربع وعشرين مرة، وان أول ذكر لها جاء باسم أورشليم في نقش مصري قديم يعود الى القرن التاسع عشر قبل الميلاد وينص على اللعن عليها.

وتكشف نبوءات التوراة والانجيل عن الخراب الذي سيلحق بهذه المدينة حتى لا يترك حجر على حجر في الهيكل حتى تنقض، وهو تحذير السيد المسيح لليهود في الانجيل، لكنها رغم هذا ظلت المدينة الحية منذ التاريخ القديم، ولعلها المدينة الوحيدة الي عبرت الى التاريخ الحديث من العصور القديمة أو عصور ما قبل الميلاد، وظلت المدينة الفاعلة والمنفعلة بأحداث التاريخ القديم والوسيط والحديث، ولم تتعرض الى المحو التاريخي رغم دنس السياسة الذي تعرضت له كبريات المدن العظمى في العالم القديم.

لكن في مسيرتها التاريخية والسردية اكتسبت اسم القدس في قبالة الضد من الدنس، وهو ما انطوى عليه اسم القدس في مصادره الاسلامية بعد ان انطوت على مسمى أورشليم في التوراة والانجيل مما أحالها بشكل أقوى الى الرسوخ في الذاكرة الدينية المشتركة بين الديانات التوحيدية الثلاث.

ويبدو ان الاصل في تسميتها بالقدس هو اصل اسلامي اشتقاقي من نص القرآن الكريم بإشارته الى الارض المقدسة وفي تسمية تلك البقعة المباركة حولها قال تعالى (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) المائدة، وقال الله تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). الإسراء.

وعن القّراء في لسان العرب الارض المقدسة هي دمشق وفلسطين وبعض الاردن، وجاء في لسان العرب أيضا قَدًس بفتح القاف والدال موضع بالشام من فتوح شرحبيل بن حسنة لكنه غير موضع القدس المعروف، وذكرت بعض المصادر ان المؤرخ الاغريقي هيرودوت ذكرها باسم " كتديتس " لكن أسمها القدس يظل اسلاميا في شيوعه وانتشاره.

وفي لوحة من المعاني الدينية التي تكسبها المعاجم اللغوية والتفسيرية الاسلامية للفظ او مصطلح القدس نكتشف المعنى الذي تكرسه السردية الاسلامية في توثيق المضمون الديني الاسلامي للقدس وتكريس الموقعية الدينية للقدس في الذاكرة الدينية الاسلامية باعتبارها اولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي الكريم وبوابة السماء في قصة المعراج النبوي، وهي لهذا ترتبط بجذر اصيل في الديانة الاسلامية،

لقد ظلت القدس تحتفظ بذلك العمق الزمني والعبق التاريخي الذي ظل دينيا بشكله ومضمونه ومحركا واحيانا مستفزا للذاكرة الدينية على الدوام، ولذلك تصنف القدس وعلى الدوام أيضا في التاريخ الديني التوحيدي، لكن هذا التاريخ تعرض الى دنس السياسة مما شكل استفزازا حرجا للذاكرة الدينية التوحيدية وبأديانها الثلاث، لاسيما مع إقامة دولة اسرائيل على أسس دينية وادعاءات توراتية واحلام تاريخية وكانت تفتقر الى اجماع شراح العهد القديم-التوراة المنحولة الى انبياء بين اسرائيل على حقيقة أو معنى ارض الميعاد أو أوان العودة الموعودة الى أورشليم.

وكانت اقامة دولة اسرائيل وفق هذه الاسس الدينية والاساطير المؤسسة لها تضع المنطقة والعالم دائما عل حافات الحروب الدينية التي هي الحروب الاخطر في حالة نشوبها، ولعل ماكان يخفف او يبعد شبح احتمالات الحرب هو الموقف الدولي تجاه وضع مدينة القدس وحيادية هذا الموقف في تحديد هوية المدينة المقدسة التي طالما صنع دمارها وخرابها ونقض احجار هياكلها ومعابدها هو احتكار هويتها لاسيما في الحروب الصليبية وحروب التهويد على يد الصهيونية، وتبدو المفارقة اخطر لو أدركنا الوقت الذي أعلن فيه الرئيس ترامب تأييده احتكار التهويد للمدينة المقدسة واعترافه بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل، فقد جاء في وقت أوشكت فيه الحرب الطائفية والدينية المنحى في المنطقة على الانتهاء والسؤال هنا... هل يسعى الرئيس ترامب وأميركا الى استئناف الحرب الدينية من جديد في المنطقة؟

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2017 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق