تعتبر قضية القدس من أخطر قضايا الحل النهائي، لأنها ببساطة تجمع في طياتها كل أبعاد الصراع العربي والفلسطيني الاسرائيلي؛ السياسية والاقتصادية والعقائدية والحضارية، نظراً لما تمثله المدينة من مكانة مرموقة على كل تلك الأبعاد عبر التاريخ، وعندما نتحدث عن القدس، فعلينا أن ننتبه جيداً للمصطلحات الرائجة؛ أو بمعنى أصح المروجة، فالقدس اليوم والتي ضمتها إسرائيل في العام 1980؛ هي عشرة أضعاف مساحة القدس عام1967 أي 70 كم مربع؛ إضافة إليها 42 كم مربع هي مساحة القدس الغربية بعد التوسعة.

أما القدس التي تعتبرها إسرائيل طبقا لمخططاتها الاستيطانية بالقدس الكبرى، والتي يجري فيها العمل والاستيطان على قدم وساق فقد تبلغ مساحتها قرابة 300 كم مربع، وهي مساحة تمثل قرابة 5% من مساحة الضفة الغربية؛ تمتد من الخط الأخضر غرباً مرورا بمسار الجدار العازل الذي ينتظر أن يكتمل بناءه قريباً، وهو ما يعني قطع التواصل الجغرافي بين أجزاء أي كيان فلسطيني في أراضي الضفة الغربية، ورغم ما قامت به إسرائيل من إجراءات عملية فرضت بها واقعاً على الأرض؛ إلا أن كل تلك الوقائع لم تحظى بأي شرعية من أي نوع غير شرعية القوة المسلحة.

ولازالت كل الضفة الغربية بما فيها القدس؛ والتي تبلغ مساحتها 5860 كم مربع؛ طبقاً للقانون الدولي أراضي فلسطينية محتلة، وهو ما يفسر الرفض الإسرائيلي الدائم لأي مفاوضات تحت أي مظلة دولية، والتمسك بالمظلة الأمريكية الفضفاضة، والتي تعتمد مبدأ التسوية لا الحل العادل؛ طبقاً للشرعية الدولية.

وهنا علينا أن ندرك أن مصطلح التسوية ينطوي على اعتراف ضمني بضرورة مراعاة الواقع القائم على الأرض، والذي يمس كل قضايا الحل النهائي، لكنه يمس قضية القدس في العمق، لأنها المنطقة التي كثفت إسرائيل فيها خلال خمس عقود من الاحتلال إجراءاتها لفرض واقع جديد فيها جغرافياً وديمغرافياً وثقافياً:

* أولاً جغرافياً:

فقد بدأت إسرائيل حملتها الاستيطانية المستمرة حتى اليوم داخل أسوار المدينة القديمة؛ بإزالة حي المغاربة؛ وطرد سكانه العرب منه وتوسيعه جنوباً وشرقاً، كما أنها عمدت على السيطرة على معظم مباني المدينة الغير مأهولة، باعتبارها أملاك غائب ضمن سياسة ممنهجة ومقننة؛ واستطاعت خلالها الاستحواذ على ما يقارب 85% من تلك المباني خلال خمس عقود من عمر الاحتلال، وبالتوازي اتسعت رقعة الأراضي التي سيطرت عليها إسرائيل خارج حدود القدس الشرقية الأصلية شرقاً وشمالاً وجنوباً ضمن المساحة التي ضمتها(70كم مربع ) بالمصادرة، إما بنزع الملكية لأغراض عسكرية أو أمنية أو للمنفعة العامة كما تدعي، واستخدمتها لصالح إنشاء تجمعات سكنية بمرافقها المتكاملة للمهاجرين اليهود الجدد، واليهود الإسرائيليين من داخل الخط الأخضر، علاوة على المساحة الممتدة الأمنية لتلك المستوطنات، والتي في الغالب ما تكون ضعف المساحة المستخدمة فعلياً.

وبالتالي فإن مجموع الأراضي التي صودرت ملكيتها الخاصة لصالح تلك المستوطنات يناهز 30 كم مربع؛ لكن الاستخدام الفعلي من بناء سكني ومرافق ملحقة لا يعدو15 كم مربع من تلك المساحة، بمعنى أن تلك المساحة المتبقية والتي يحظر على العرب البناء فيها باعتبارها أماكن خضراء هي مساحة محجوزة؛ لمزيد من التوسط الاستيطاني الديمغرافي مستقبلاً، وهو ما حدث ويحدث يومياً عبر عطاءات البناء التي تصادق عليها اسرائيل؛ مدعية أنها لا تقيم مستوطنات جديدة، وأن ما يحدث لا يعدو كونه نمو طبيعي لحاجة السكان.

ورغم كل تلك الحملة المحمومة والممنهجة لاستيطان داخل 70كم مربع التي ضمتها من أراضي الضفة الغربية لصالح مدينة القدس الموحدة، فإن اسرائيل لم تكتفي بذلك بل توسع الاستيطان شرقا وجنوبا وشمالا عبر العديد من البؤر الاستيطانية، التي بنيت على أراضي صودرت من الموطنين الفلسطينيين، وبنفس السياسة السابقة الذكر؛ بدأت تنمو تلك المستوطنات وتتسع ضمن المساحة المصادرة من الأرض، وتمثل مستوطنة معالي أدوميم نموذجاً؛ فالمستوطنة التي بدأت عام 1975 كمجموعة من البنايات تحولت اليوم إلى مدينة بمساحة 50 كم مربع على بعد7كم شرق من حدود القدس الموحدة(70كم) وتسعى إسرائيل لتوسيعها غرباً عبر ضم منطقة E1، والتي تقدر مساحتها ب12 كم مربع، والتي تعد منطقة فاصلة بين معالي أدوميم والقدس الموحدة، لتصبح نسبة مساحة القدس الشرقية في القدس الموحدة طبقا لهذا المخطط أربعة اضعاف الشطر الغربي.

* ثانياً ديمغرافياً:

نجحت إسرائيل عبر إجراءاتها سابقة الذكر على الأرض إلى الحد من التفوق الديمغرافي العربي ضمن الحدود الجغرافية لمنطقة القدس سالفة الذكر، خاصة وأنها عند ضم الـ70كم لصالح القدس الموحدة؛ عمدت إلى منح سكانها العرب هوية زرقاء وليس جنسية؛ بمعنى أن سكان القدس العرب تحولوا إلى جالية مقيمة في مدينتهم التاريخية غير مرغوب فيهم؛ ولا يتمتعون بأي حقوق مواطنة؛ أو حتى حقوق مدنية، ووضعت إسرائيل نظام قانوني يهدف إلى إخراجهم من المدينة عبر إلزامهم بعدم ترك المدينة لأكثر من 7سنوات؛ وإلا سحبت هويتهم ومنعوا من الإقامة في المدينة، إضافة إلى ذلك الحد من النمو السكاني للأحياء العربية عبر فرض مبالغ باهظة على تصاريح البناء؛ وضمن إجراءات معقدة قد تستغرق سنوات للحصول على رخصة حتى لترميم أو إصلاح أي عقار يملكه أي عربي؛ إضافة لحجم الضرائب الباهظة المفروضة على التجار العرب، والضرب الممنهج لمناطقهم التجارية عبر استحداث مناطق تجارية ضخمة، وأكثر رواجاً داخل الأحياء الاستيطانية في المدينة؛ مما اضطر العديد من التجار العرب إلى إغلاق محلاتهم.

وفي المقابل منح المستوطنين كل الميزات والحوافز الاقتصادية لاستقدامهم إلى المدينة والسكن فيها، وسخر مليارديرات اليهود الأمريكيين كل طاقتهم الاقتصادية للاستثمار في القدس، ودعم المشاريع الاستيطانية فيها؛ فضخت المليارات في مشاريع عطاءات البناء والبنى التحتية، ومشاريع الهاي تك، والمشاريع السياحية والترفيهية، ورغم أن اسرائيل استطاعت توطين ما يزيد عن 300 ألف مستوطن في المدينة، إلا أن كل تلك الإجراءات لم تفلح في الحد من النمو الديمغرافي العربي في المدينة، وبقى الفلسطينيون يشكلون ما نسبته 41% من سكان القدس الموحدة بشطريها، مما دفع اسرائيل إلى إخراج مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية كمخيم شعفاط؛ وعبر الجدار العازل من حدود المدينة، في محاولة للحفاظ على التفوق الديمغرافي اليهودي مستقبلا داخل المدينة؛ وتمهيداً لإخراج تلك المناطق رسمياً من حدود المدينة وهو ما حدث بالفعل لاحقاً.

* ثالثا ثقافياً:

انتهجت إسرائيل سياسة تنقيب غير معلنة، في محاولة للعثور على أي دليل أثري يسند روايتها المزعومة حول تاريخ المدينة، لكنها وعبر 50 عام من الحفريات أسفل المدينة، وأسفل المسجد الأقصى فشلت في إيجاد أي ورقة توت تستر عورة روايتها تلك حول الهيكل المزعوم، كما فشلت في إيجاد أي موطئ قدم يهودي يُذكر داخل الحرم القدسي؛ وذلك بفعل ردات الفعل للمقدسيين على أي محاولة إسرائيلية في هذا الصدد، والتي كانت آخرها قضية البوابات الالكترونية، والتي كادت أن تقلب الطاولة على إسرائيل.

ولكن اسرائيل لن تتوقف على السعي إلى الوصول لموطئ قدم داخل الحرم القدسي، وستتحين الفرصة لإعادة الكرة مرة أخرى، فإسرائيل التي جرفت الكثير من الدلائل الأثرية التاريخية الناطقة بالتنوع العرقي والاثني للمدينة لصالح روايتها المزعومة، ونهبت تلك الآثار وبيعت في السوق السوداء العالمية؛ حالها كحال كل آثار فلسطين، لدرجة أن جنرالات إسرائيليين كموشي ديان كانوا يهدون بعضها محفورة بتوقيعه، وتلك جريمة أخرى ارتكبتها إسرائيل ليس بحق الفلسطينيين فحسب، بل في حق الانسانية جمعاء.

في ظل ما سبق تبدو إسرائيل أبعد ما تكون عن التنازل عن حجر واحد بنته في القدس في أي مفاوضات قادمة، خاصة في ظل انهيار ميزان القوة لصالحها، كما أن الحديث يدور عن تسوية لا حلول عادلة، كما أنه يستحيل على أي فلسطيني أن يقبل بقاء الوضع على ما هو عليه في أي تسوية دائمة للصراع، خاصة وأن الفلسطينيين يمتلكون سلاح الشرعية الدولية حتى وإن كان غير فاعلا، فهي تعتبر القدس الشرقية أراضي محتلة، ولا تعترف بضمها لإسرائيل، وحتى إن وافق الفلسطينيون؛ فإن أبعاد قضية القدس تخص الكل العقائدى، حيث أن وضع المدينة مرتبط بعامل قومي وعقائدي لقرابة 5 مليار مسلم ومسيحي في العالم، لن يقبل أحد منهم أن يتحول الوضع الدائم للمدينة المقدسة؛ للأديان الابراهيمية الثلاثة للمدينة للأقلية اليهودية، وسيفتح أي وضع من هذا القبيل أبواب جهنم في الإقليم والعالم، وسيكون عمر أي تسوية من هذا القبيل أقصر من أعمار من وقعوا عليها.

لقد نجحت إسرائيل خلال 50 عام من عمر احتلالها للمدينة في تغير كثير من المعالم الجغرافية والديمغرافية على الأرض، وخلق واقع جديد إلا أن هذا الواقع لم يفلح بطمس معالم الوجود العربي الفلسطيني في وجه المدينة المقدسة التي تأبى أن يغطي وجهها أي قناع عنصري كولونيالي، فلقد مر بشوارعها وأحيائها القديمة امثالهم وطوتهم في جوفها أثراً بعد عين.. فتلك هي القدس بوابة السماء.

* أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
Political2009@outlook.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق