أدى التغيير السياسي الذي شهده العراق بعد نيسان 2003 إلى أحداث وتداعيات تجاوزت في أبعادها وتأثيراتها السياسية، لتتطور وتصبح فيما بعد أزمات ومشكلات مزقت النسيج المجتمعي للشعب العراقي، عبر سيادة مبدأ التشدد والتطرف الذي حمل في طياته الأحقاد والضغائن والغلو وعلى كافة المستويات والصُعد سواء السياسية، الدينية، الإجتماعية، وهو ما عزز من ثقافة الإنقسام وغياب الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع.
ولا شك فإن البيئة السياسية التي ولدت بعد تغيير النظام السياسي عام 2003، وطبيعة الخطاب السياسي والديني الذي تم تبنيه في هذه المرحلة، لعب دوراً لا يمكن تجاهله في تكريس ثقافة التطرف والطائفية بكافة أشكالها، وإستغلال كل طرف من الأطراف المختلفة والمتعارضة الفرص السانحة للحصول على أكبر قدر من المكاسب والمصالح السياسية والإجتماعية، والدفع باتجاه تعزيز الولاءات الطائفية والدينية والقومية الضيقة على حساب الولاء الوطني الجامع الشامل.
ومما عزز من خطورة هذه المرحلة أنها أنتجت سلوكيات وممارسات لم تكن مألوفة من قبل على صعيد المجتمع العراقي، غلب عليها طابع الصراع والتطرف والأحقاد والكراهية للطرف الآخر، الأمر الذي ساهم بدوره في زعزعة السلم الأهلي والإندماج الوطني وغياب روح المواطنة بين فئات المجتمع.
وعلى الرغم من عدم إنكار خطورة المرحلة الراهنة وبكافة مستوياتها، فإن التطلع نحو المستقبل يحتم على الجميع التوجه نحو إجراء مراجعة دقيقة وموضوعية بعيدة عن الإنتماءات الضيقة لطبيعة ومخاطر التحديات والتهديدات التي تواجه الوحدة الوطنية في العراق. إذ أن إدراك تلك المخاطر وتداعياتها يشكل المنطلق والبوابة الرئيسة التي من خلالها يمكن وضع الحلول والآليات الناجعة للحيلولة دون تفاقم تلك المشكلات وتحولها إلى أزمات من الصعوبة إيجاد الحلول لها.
وفي هذا السياق، فإن تجاوز حالة الإنقسام والتفكك الإجتماعي والسياسي الذي يعاني منه المجتمع العراقي يتطلب قدراً كبيراً من العقل والحكمة، بهدف إعادة بناء النسيج الإجتماعي والوحدة الوطنية وإشاعة مبدأ التعايش السلمي بين الأفراد، من خلال التأكيد على سيادة قيم الإعتدال والوسطية كونها لغة العصر التي يجب أن تسود، وتغليب مفهوم الحوار والتسامح والتقارب في العلاقات واحترام الرأي والرأي الآخر، والإبتعاد عن الخطابات الطائفية المجزئة للنسيج الإجتماعي.
إن التركيبة المجتمعية التي يتميز بها العراق والقائمة على التنوع الطائفي والقومي والديني، لم تساهم وعلى مدى عقود طويلة من الزمن في تحقيق الوحدة الوطنية والتقدم والتطور في البلد، بل أحدثت فجوة كبيرة في العلاقات القائمة وعلى مختلف الصُعد، الأمر الذي أثر على مسار العملية السياسية، وأدى إلى قيام نزاعات وتقاطعات عنيفة ولا سيما النزاعات القومية والطائفية.
وعليه فإن عملية تحقيق التعايش السلمي في العراق تحتاج إلى بذل جهود كبيرة من أجل الوصول إلى اطار عام وأساس متماسك لإعادة هيكلة وبناء المجتمع من جديد، فالحساسية المفرطة بين الجهات في حالة من التخاصم والإختلاف، والشعور بالحقد والكراهية وفقدان الثقة تجاه بعضهم البعض يستدعي العمل الجاد لإعادة اللحمة فيما بينهم، من خلال تحقيق التعايش السلمي ضمن الوطن الواحد عبر إعطاء الأولوية لإشاعة منهج الإعتدال والتسامح بين أبناء الوطن الواحد وصولاً إلى تحقيق المصلحة الوطنية الشاملة على حساب المصالح السياسية والطائفية والعراقية الضيقة.
وإنطلاقاً من مواجهة ظاهرة الغلو والتطرف، لا تتم إلا من خلال إحياء دور العقل ودراسة الظروف الإجتماعية التي ساهمت في تفشي تلك الظاهرة والتعرف على أسبابها وسبل مواجهتها، يأتي منهج الإعتدال والوسطية كونه من السبل والآليات الناجعة للقضاء على تلك الظواهر الشاذة في المجتمع.
وفي هذا الإطار تبرز ثمة معالجات متوازنة وواقعية، يمكن الأخذ بها لتحقيق التعايش السلمي في العراق وصولاً إلى الإندماج الإجتماعي في العراق وذلك عبر مجموعة من الإجراءات والوسائل من خلال إعتماد منهج الإعتدال والوسطية سواء على صعيد الفكر أو الممارسة، لما له من تأثير مهم في صيانة السلم الأهلي وتحقيق العيش المشترك في هذه المرحلة الحرجة، وهي:
1- إن طبيعة النظام السياسي القائم في العراق بعد عام 2003 لعب دوراً سلبياً في تمزيق التعايش والإندماج بين أفراد المجتمع، عبر قيامه على أسس المحاصصة والطائفية والقومية، الأمر الذي ساهم في خلق هويات طائفية ومذهبية وعرقية ومناطقية على حساب الهوية الوطنية العراقية الجامعة، مما أفقد النظام إمكانية بناء مؤسسات الدولة القوية، والحفاظ على أهم مقومات التسامح والسلم الأهلي.
2- تبرز ضرورة وضع دستور جامع وقانون موحد لجميع فئات المجتمع على أساس المساواة والعدل، لا على أساس إمتيازات الطوائف والإثنيات والحصص والتقسيمات البعيدة عن جوهر المواطنة بالمفهوم المعاصر، بل على أسس المشتركات العابرة للهوية الفرعية وفي إطار الهوية الوطنية الشاملة.
3- التأكيد على ضرورة إعادة بناء المنظومة الفكرية والثقافية للفرد كونه النواة الأولى للمجتمع والدولة، من خلال غرس المفاهيم الصحيحة والإهتمام بالتنشئة الإجتماعية للفرد عبر تشجيعه على التمسك بالطريق الصحيح الذي أكد عليه الدين الإسلامي الحنيف.
4- زيادة الوعي السياسي والإجتماعي والفكري لدى أبناء المجتمع من خلال إبراز قيم الوسطية والإعتدال ودورها في التعرف على الأحداث والمشكلات بنظرة واقعية لا مثالية، عبر ترسيخ مبادئ الحوار الديمقراطي وإحترام الرأي والرأي الآخر، بعيداً عن أحادية الرأي والتطرف المقيت، وصولاً إلى قناعات مشتركة تساعد على بناء تصورات ومقترحات لكيفية مواجهة تلك المشكلات مستقبلاً.
5- أهمية التأكيد على تجاوز الخلافات والتناقضات الموجودة في المجتمع، ولا سيما الدينية والسياسية، عبر إشاعة قاعدة التقريب الفكري بين المذاهب المختلفة من خلال تعميق التعاون في المشتركات وخلق الثقة المتبادلة بين الأطراف المتناقضة، وتجاوز مجالات الخلاف والتناقض، وهنا يأتي دور المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في الإطلاع بهذه المهمة من خلال التثقيف وزيادة الوعي بأهمية وحدة الأديان، والتحذير من خطورة التشرذم والإنقسام الديني والسياسي القائم في المجتمع، وهو ما يسهم في بناء دولة المواطنة على أساس الحقوق والواجبات وعدم التمييز والتفرقة بين أبناء المجتمع.
6- إيجاد آليات بحثية علمية تساهم في نشر مبادئ العدل والمساواة والتسامح، والترويج لقيم الإعتدال والوسطية في المجتمع، ودورها في وضع الأسس والمفاهيم الصحيحة لتطوير المجتمع وفقاً لنهج الإعتدال في الفكر والممارسة، وبعيداً عن الشعارات والمثاليات التي قد تعمق من الخلاف والتناقض بين أفراد المجتمع، مع إمكانية تقنين ذلك قانونياً من خلال تشريع قانون يجرم كل من يخالف منهج الإعتدال والوسطية، ويدعو إلى التطرف والطائفية بكافة أشكالها.
7- تُعد وسائل الإعلام المتنوعة اليوم هي أخطر مادة ثقافية تؤثر في ميول الأفراد ورغباتهم وأفكارهم وعواطفهم، من خلال استغلالها من قبل بعض الأطراف ضد أطراف أخرى لنشر ما يريدون من أباطيل وتشويه الحقائق وإشاعة الأكاذيب والفتن. الأمر الذي يتطلب العمل الجاد على تقويم وإعادة تأهيل وسائل الإعلام المعاصرة، ولا سيما المليئة بالإنحرافات السلوكية والفكرية وضرورة الإنتباه إلى وسائل الإعلام المرئية منها كونها وسيلة موثوقة من وسائل التثقيف والترويج، فضلاً عن وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة الأخرى.
لا شك أن تلك المعالجات والمقترحات لا يمكن أن ينتج عنها أي تقدم في الإتجاه الصحيح إذا لم يكن هناك توحد في الرؤى والأهداف على المستوى الوطني، وضرورة إدراك وإستيعاب طبيعة التحديات والمخاطر التي يواجهها البلد، بدءاً من مستوى النخب السياسية التي تتولى إدارة البلد عبر إنتهاج منهج وإطار جديد في طبيعة الخطاب السياسي العراقي المعاصر القائم على أساس سمو وعلوية طرف على الأطراف الأخرى، وعدم تقبل النقد للآراء والتوجهات المطروحة وكأنها أشياء مقدسة لا يمكن المساس بها.
فضلاً عن ذلك فإن مختلف شرائح المجتمع العراقي مطالبة بالعمل على ترصين الجبهة الداخلية، والنأي بنفسها عن عوامل ومسببات الفرقة والإنقسام، والتوجه نحو عوامل الوحدة والتعايش السلمي، بدءاً من العائلة وحتى المستويات الأخرى من المجتمع، كون المسؤولية ليست منفردة وإنما هي مسؤولية تضامنية - تشاركية في سبيل الوصول بالبلد إلى بر الأمان.
اضف تعليق