في لقائه التلفزيوني الاول بعد تقديم استقالته، تحدث رئيس الوزراء اللبناني المستقيل سعد الحريري عن ما اسماه بـ"الصدمة الايجابية" ويقصد بها أيقاظ اللبنانيين من سباتهم عن خطر لم يكونوا على علم به، وبالتأكيد المقصود بالخطر هو ايران وحزب الله كما اشار الى ذلك في خطاب استقالته او حتى خلال لقائه التلفزيوني في قناته الخاصة "تلفزيون المستقبل" مع الصحفية بولا يعقوبيان.
مرت على صدمة الحريري "الايجابية" عشرة ايام، ولم يحصل ما اراد منها هو ومن يدعمه في الرياض، فقد استيقظ اللبنانيون على شيء يختلف عما قصد بصدمته بالتعاون مع المحور السعودي الامريكي، نهضوا يطالبون بعودة رئيس وزرائهم من الخارج، واتهموا ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي هناك بسجن الحريري، والامر لا يتعلق بخصومه (الحريري) فقط بل هناك انقسام كبير داخل حزبه حول خطواته التي يرون فيها اهانة الى لبنان وشعبها، كما ان هناك شكوك حول الاسباب المعلنة لاستقالته.
اقليميا ودوليا يزداد الاجماع لدى الاوساط الرسمية وغير الرسمية بان استقالة الحريري لم تكن قراره، وكتبت بلهجة سعودية "عدائية" تجاه ايران وحزب الله، بدليل اختلافها عن سلوكه السياسي في الاشهر القليلة الماضية، كما ان هناك قناعة بدأت تظهر وتترسخ في نفس الوقت بان الخطة السعودية للتصدي للنفوذ الايراني في لبنان قد اربكت حسابات الرياض وجاءت بطريقة سلبية، ويُتوقع ان الايام المقبلة ستشهد تاثيرا عكسيا تكون السعودية فيه هدفا لسهام النقد لبنانيا واقليميا ودوليا.
هناك مجموعة مؤشرات تكشف عن حجم المغامرة غير المحسوبة التي اقدمت عليها الرياض في فترة حرجة جدا في تاريخ المنطقة والعالم وهي كالاتي:
اولاً: تقديم استقالة الحريري من داخل السعودية، وهو ما اعتبره اللبنانيون من المسؤولين والشعب اهانة لا تغتفر، فضلا عن كونها جاءت بضغوط سعودية لاستخدامها كورقة في صراع اقليمي كان الافضل ان لا يكون لبنان جزء منه او على الاقل ان يبقى في اقصى الصراع بدلا من الوقوف فوق فوهة المدفع، حتى ان رئيس الجمهورية قد غرد في "تويتر" قبل اللقاء التلفزيوني للحريري بان كل ما يصدر منه لا يؤخذ به لانه فاقد للارادة. اين وصلت الثقة بالحريري اذا؟
ثانياً: عدم منطقية الحجج التي قدمها سعد الحريري في خطاب الاستقالة، فقد ذكر انه مهدد بالاغتيال اذا لم يترك منصبه، وهذا ما نفته مباشرة اجهزة الامن اللبنانية ورئيس الجمهورية.
ثالثاً: تاثير الجبهة اليمنية في تحشيد الرأي العام الاقليمي والدولي ضد السعودية، اذ فشل الحصار الذي فرضه التحالف العربي ضد اليمن، وادى الى زيادة معانات الشعب اليمني وهو ما دفع المنظمات الدولية وعلى رأسها الامم المتحدة الى الدعوة لفك الحصار بشكل فوري خشية وقوع مجاعة كبرى، اذ تقول المنظمة الاممية ان مخزون الغذاء لا يكفي سوى لاحد عشر يوما في الوقت الذي يعيش فيه نحو ثلثي سكان اليمن على المساعدات الاممية وهم يعانون من نقص في التغذية.
رابعاً: دخول فرنسا على خط الازمة اللبنانية، وهذا ما خلط الاوراق على الرياض التي كانت ترى فيها ساحة للصراع مع ايران فقط، فقد صرحت الرئاسة الفرنسية بتاكيدها ان استقرار لبنان هو "خط احمر" ودعوتها الى عدم تدخل الاطراف الخارجية بالقرار الداخلي للبنان، وهو تدخل يخدم طهران التي تريد الحفاظ على الوضع القائم حيث حقق الكثير من المكاسب في الوقت الذي انشغلت الرياض سابقا بتنظيم الحملات الدعائية ضد الاتفاق النووي، وترقب هوية الفائز في الانتخابات الامريكية.
خامساً: تزامنها (الاستقالة) مع حملة الاعتقالات الكبرى في السعودية، وهو ما اثار شكوك الكثير من المتابعين الذين يرون فيها تاتي في سياق استيفاء بعض الالتزامات المالية على سعد الحريري، استنادا الى طريقة محمد بن سلمان القائمة على خلط الاوراق لتحقيق اهداف غير تلك التي يعلن عنها تماما ولا حتى قريبة منها.
وما تحدث عنه الكاتب البريطاني "روبرت فيسك" في مقاله المنشور بصحيفة "اندبندنت"، يؤكد ما نقول، اذ يرى فيسك ان استقالة الحريري ترتبط بوجود استحقاقات مالية عليه في لدى السلطات السعودية حتى انه توقع محاكمته في الايام المقبلة، ويعتقد ان الامر له علاقة بافلاس شركة "سعودي اوجيه" المملوكة للحريري، اذ ان تلك الشركة عليها مستحقات مالية تصل الى ٩ مليارات دولار، ولم تدفع مستحقات موظفيها، واشار الى ان هناك دعوى قضائية ضدها قد تؤدي الى محاكمة الحريري في الايام المقبلة.
ايران التي تمثل المستهدف الاساسي من هذه الازمة التي افتعلتها السعودية وادارتها، لا يمكنها ان تقدم ما بنته لسنوات كهدية مجانية لخصومها، والمرحلة الحالية لا تسمح بمزيد من التوتر والازمات لذلك فهي تطمح الى التهدئة، وقد اظهرها ذلك السلوك المتزن بموقف الدولة الراعية للسلام.
وفي الختام لا بد للمتابع لاحداث الشرق الاوسط من استذكار عدد الازمات التي خرت منها السعودية بنتيجة تخدم مصالحها العليا، ليحصل على مؤشرات عن مدى وجود تخطيط مقصود واستراتيجي في تحركاتها ام تحكمه الارتجالية والتسرع، اذ خسرت معركتين امام طهران في العراق وسوريا، ولديها حرب اليمن وازمة قطر المستعصيتان على النهاية، وبهذا السجل الخالي من الانجاز لا يمكن لعاقل ان يتوقع تقدما جديدا للرياض، ما عدا انتصاراتها الدعائية الخالية من اي مضمون حقيقي.
اضف تعليق