بمناسبة الهزة الأرضية التي ضربت العراق مؤخرا، والتي بلغ مقياسها 7,6 درجات/ على مقياس رختر وفقاً لمنظمة أرصاد أمريكية، خطر في بالي أن أخوض في زلزال من نوع آخر قد يكون أكثر خطورة مما يحدث من تصدعات للأرض العراقية، وأعني بالنوع الآخر من الزلازل هو (الزلزال الفكري)، فهل يتعرض العراقيون بالفعل لهذا النوع من الزلازل، وهل لرواج (الإشاعة) بخصوص الزلزال الذي ضرب مساحة العراق من أقصاه الى أدناه علاقة من نوع ما بالزلزال الفكري الذي تزامن مع أحداث ما بعد 9 نيسان 2003؟؟.
لازلنا نتذكر أجواء الفرح التي أعقبت الإطاحة بالنظام السابق، فقد ضرب العراقيون أخماسا بأسداس وهم يتابعون الأحداث الدراماتيكية، وبلغ بهم شوط الأمل إلى آماد بعيدة، ومصدر أفراحهم يتساوق مع تلك الأحلام والتمنيات التي عاشوا تفاصيلها لحظة بلحظة، لكونهم مقبلون على تصنيع عراق جديد، وقيام حكم ديمقراطي سوف يُنصف الشعب العراقي، ويجعله يعيش في بحبوحة من العيش الرغيد، ولم يكن يخطر في بال أي عراقي، ما حدث من حالات ارتداد وتذبذب ونكوص، بالأخص ما جرى من ضمور وتردٍّ في الآفاق الأمنية والإدارة السياسية والاقتصادية والإنتاجية والخدمية، لا تنسجم قط مع تلك التطلعات المتأججة.
وثمة الكثير من المفكرين السياسيين والمهتمين، وصفوا (إطاحة نظام صدام حسين)، وإجراءات الحاكم الأمريكي بريمر بالأخص، بأنها زلزال ضرب العراق في المادة والفكر، ولم ينسَ معلقون كثر، أن أمريكا والقوى التي تأتمر بأمرها، يطبقون بالفعل نظرية (الفوضى الخلّاقة)، ولم يكتفوا بالتغييرات الإدارية الهائلة، ولا بتأسيس أنماط سياسية مختلفة، ولم تشبِع عقولهم وأذهانهم، تلك التغييرات الحاسمة على المستوى المادي، (حفر في الشوارع والساحات، وزحام هائل للسيارات، وغبار ملأ الأحياء السكنية، وتغيير تصميم المدن، والتدخل في التصميم العمراني للمدن).
كل هذا وغيره لم يكن كافيا للأمريكيين ومساعديهم الذين خططوا لتطبيق الفوضى الخلاقة في العراق، فهذا الزلزال في التغيير المادي ما كان يملأ قرائحهم وآمالهم بصنع عراق مختلف تصنعه (الفوضى الخلاقة)، فأسسوا لإطلاق ما يمكن أن نسميه بـ (الزلزال الفكري)، الذي يحتاجه الأمريكيون ومساعدوهم في صناعة عراق وعراقيين جدد، لأن الزلزال المادي وحده لم يكن كافيا ولا قادرا على تحقيق مآرب أمريكا والغرب.
وهكذا بدأت مرحلة (الزلزال الفكري)، بموازاة الزلازل المادية الاجتماعية والسياسية وسواها، ولكنْ هناك بون شاسع بين النوعين، فإحداث تغييرات مادية عمرانية، وسياسية، واقتصادية، لا تحتاج أكثر من إصدار قرارات أو قوانين، وسوف يترشّح عن تطبيقها النتائج المأمولة، لكنّ النقص سوف يبقى صارخا في مجال الفكر والقيم الفاعلة، خصوصا أن العراقيين شعب له جذور فكرية إنسانية إسلامية ضاربة في أعماق التاريخ، لذلك فإن الحاجة للتغيير الفكري أكثر أهمية وإلحاح لتنميط الأفراد وترويض الجماعات وتحييد المكونات المختلفة في العراق.
فكانت حاجة أمريكا لإحداث (الزلزال الفكري) أمراً حتميّاً، لكي تضمن نشر أنماط عكسية تختلف وتتضاد مع القيم السائدة، حتى تحقق تصدعات اجتماعية هي بأمسّ الحاجة إليها تبعا لما تم التخطيط له لتغيير البنية الاجتماعية والأخلاقية على الأخص، حتى يكون بمقدورها، صنع عراق يحقق لها ما تربو إليه، وقد حدث هذا بالفعل، فتغيّرت بعض القيم التي أسندت الهيكل الفكري المتعارف والمعتاد، وساعد هذا الاختلال على انتشار الفساد بأنواعه، وساءت ثقة الإنسان العراقي بنفسه وقدراته وحيويته، وضربه اليأس من الجوانب كافة.
وما زاد الطين بلّة، ذلك الإخفاق الحكومي إزاء آمال الشعب وتطلعاته، فصارت ثروات العراق نهبا لكل من هبّ ودب، وتم تصفير الخدمات، وتضاعفت السرقات، واشتعلت حرائق الفساد الإداري والمالي في مؤسسات ودوائر رسمية كما أشارت الى ذلك مؤسسات مستقلة مثل مفوضية النزاهة، وتصاعدت نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر لتبلغ 23% بحسب بيانات رقمية رسمية صدرت عن وزارة التخطيط.
فنجح هذا كله في زرع جذور اليأس في الشخصية العراقية، وهذا كان هدفا مطلوبا، حتى يتم تحقيق المآرب التي تتوافق والتغييرات المطلوبة في هذه المرحلة، وهي أن تشعر الشخصية العراقية باليأس والجزع وقلة الصبر وانعدام الثقة، مع أن العراقيين مشهود لهم بأنهم شعب حي، ولكن حينما يضعف الشعب أو يتم إضعافه عمْداً، سوف تسهل عملية التجاوز عليه، بعد التشويه الثقافي الفكري الذي يهاجمه بوسائل العولمة الكثيرة، وهذا الصراع لا يحتوي على ذرّة إنصاف.
ولهذا السبب ساعد (الزلزال الفكري) على تدمير الرصيد الخاص بالقيم عند العراقيين، واستطالت مخالب الإشاعة، وفعلت فعلها بين الفسيفساء الاجتماعي، ولعل ما حدث من ردود أفعال مستغرَبة من العراقيين تجاه الهزة التي ضربته مؤخرا، تؤكد أن كثيرا من العراقيين لم يتعاملوا مع هذا الحدث بما يتناسب مع حجمه الواقعي، وهذا يذكرنا بالزلزال الذي ضرب الشعب الياباني قبل سنوات، والذي قام بتدمير أحد المفاعلات النووية، وأحدث أضرارا جسيمة في بنية الدولة، وقتل عددا كبيرا من الأنفس، لكن السؤال هنا:
ما هو الفارق بين تعامل العراقيين مع (هزة) لم تلحق بهم سوى أضرار مادية قد تكون بسيطة مع فقدان عدد من الأفراد القلائل أرواحهم، وبين تعامل اليابانيين مع الزلزال الذي ضربهم قبل سنوات، إن مجرد إقامة مقارنة عادلة ودقيقة بين الزلزالين سوف تُظهر لنا مدى ضعف العراقي قياسا بالياباني في التعامل مع الأحداث الخطيرة الطارئة، وقد يقول قائل هناك فارق كبير بين الياباني والعراقي في الظروف وطبيعة الدولة ومتانة النسيج المجتمعي، لكن الأصح أن العراقي يمتلك جذورا ثقافية ومبدئية تاريخية عميقة، كان يمكنها أن تجعل من العراقي متفوقا على غيره، ولكن تلك الاختراقات الهائلة التي تعرضت لها الشخصية العراقية، جعلت من المقارنة بينه وبين الياباني أمرا مستحيلا، أو يفتقد للعدالة.
فهناك القمع الذي تعرّض له العراقي، وسلب الشخصية في عهود الحكومات الدكتاتورية التي دامت عقودا، إن لم نقل قرناً أو قروناً، ثم حدثت المفاجأة في العهد الديمقراطي الذي تهشمت فيه (بصورة مقصودة) حُزَم من القيم المحترمة، لتحل محلها قيم طارئة خلخلت البناء الاجتماعي والقيَمي للعراقيين، ولهذا نلاحظ أن شبكات التواصل الاجتماعي اشتعلت بالإشاعات والتعليقات العجيبة الغريبة عن الهزة الأرضية، وأظهرت حالة الاختلال التي يعاني منها الكثير من العقول تجاه الأخطار المفاجئة، ولا نستبعد التخطيط لنشر الإشاعة وتهويل الحدث وإعطائه أكثر من حقيقته بكثير.
الأمر الذي يدفع بنا إلى إعادة النظر بالتعامل مع الخطر والإشاعة وخزين القيم، فنحن شعب يمتلك أصالته الثقافية والدينية والإنسانية المائزة، ولا يصح مطلقا، أن تظهر عليه علامات اليأس والضعف والخشية المبالَغ بها من حالات الطوارئ والمفاجآت غير المحسوبة، إذاً نحن لا نستبعد تعرّضنا الى (زلزال فكري)، أفقدنا هامش من المبادئ والقيم، ولكن يجب أن يكون هذا الأمر حافزا لنا لترميم تصدعات هذا الزلزال الفكري، بالأخص أن الشعب العراقي شعب حي متفائل ويوصف بأنه كـ (العنقاء) التي تنهض دائما من تحت رماد الفواجع، لكي يمكن للعراق مواجهة الزلازل الطبيعية (من كل الأنواع) برباطة جأش وحكمة لا يمكن لليأس أن يقترب منها.
اضف تعليق