نشرت مؤخرا صحيفة بابلون بي الساخرة العنوان التالي: الثقافة التي تنطوي على كل الحقيقة اصبحت فجأة في قلق شديد من الأخبار المزيفة. واذا كانت معظم النكات جيدة، فان اكثرها ليس ممتعا. الادّعاء بان الحقيقة هي ما نقوم به، ترك العديد من الخبراء الامريكيين في حالة من الصدمة حاليا ليجدوا أنفسهم يواجهون رئيسا يعتقد تماما بنفس الشيء. ربما نعتقد اننا دخلنا عصرا ثوريا جديدا لما بعد الحقيقة يتجسد بمستشار ترامب كيلن كونوي الذي عرض حقائق بديلة.
غير ان النقاش حول ما اذا كانت الحقائق مرنة هو في الحقيقة نقاش قديم جدا. وهكذا فان اي دفاع عن الحقيقة ضد ترامب يعتمد على مفكر ذو افكار متأصلة جيدا نسينا كم كانت هي ثورية. ذلك المفكر هو سقراط.
في صورته الحديثة، كان الهجوم على الصلاحية الموضوعية للحقائق بدأ حقا في اواخر القرن التاسع عشر بعد صدور كتاب ما وراء الخير والشر لفردريك نيتشة عام 1886.
ان فكرة نيتشة باننا لن ندرك الحقيقة بشكل مستقل عن عقائدنا قد اصبحت هي الايمان السائد. هذه الفكرة تتركنا محبطين امام ادارة ترامب واحصائاته حين يرى ان وصوله للحكم نال اعجاب الملايين، وكان حقيقة. فمنْ يقول هو خاطئ؟
نيتشة يبدو تقدميا لكنه في الواقع كان محافظا. ان النسبية التي يتبنّاها تعود الى عصور قديمة والى وقت كانت فيه مألوفة كما هي عليه الآن. قبل سقراط كان هناك اثنان من المفكرين القدماء في اليونان وهما بروتوغاراس وهرقليطس. شعار بروتوغوراس الشهير كان "الانسان هو مقياس كل الاشياء" والذي يصل الى حد القول بان ما يؤمن به كل فرد هو الحقيقة بالنسبة له: هرقليطس ادّعى بان "كل شيء هو في سيلان"، مقترحا ان لاشيء صحيح دائما.
كان الناس بحاجة لتعاليم هؤلاء المفكرين اللامعين حين بلغ سقراط مرحلة النضج، لكن سقراط عارض وبقوة النسبية الساحرة لزمانه. وبما انه لم يكتب اي شيء على الورق، فمن الصعب تأكيد مدى الدقة في سجلاتنا عن نظرياته. لكن اتباعه (افلاطون وارسطو) كلاهما ذكر بانه أقام افكاره على معارضة هرقليطس، الذي كانت افكاره مثيرة للاهتمام لكنها في النهاية ليست مقبولة. في حوار مثل (فيدو)، تيثوس وكراتلوس، في الحوار يصف افلاطون سقراط مهاجما هرقليطس، محافظا على الحقيقة والمعرفة من فوضى التدفق المستمر.
اعترف سقراط بان الاشياء التي نراها ونسمعها تتغير بسهولة وان الناس يمكن ان يتصوروها بطرق مختلفة. السماء ربما هي زرقاء اليوم ورمادية غدا، وانت وانا ربما نرى الوانا مختلفة في نفس السماء وفي نفس الوقت. ولكن اذا كان كل شيء يتغير باستمرار، فاننا سنُترك في عالم سخيف، يكون فيه السؤال عن مقبولية او عدم مقبولية قتل الاطفال يعتمد على الشخص الذي نسأله والزمان الذي نسأل فيه. لذا فان سقراط اقترح بالضد من هيرقليطس بالقول ان الكائن البشري يمكن ان يعرف اشياء معينة والتي "هي دائما ذات الشيء وتحدث في نفس الطريقة"(حوار فيدو)، مثل الجمال والشجاعة والعدالة. مثل هذه الحقائق الأبدية لا تتغير اعتمادا على كيفية رؤيتنا لها، كذلك، انها تضفي سماتها على الاشياء والاحداث في العالم الذي حولنا. ذلك يتركنا واثقين بالادّعاء بان "قتل الاطفال خاطئ" او "اثنين زائد اثنين يساوي اربعة".
الفكرة السقراطية للموضوعية اكتسبت جاذبية كبيرة لدرجة حينما واجهها نيتشة وفلاسفة اخرون، بدوا كأنهم ثوار يتحدّون الارثودكسية. لكن موقف سقراط من الحقائق الموضوعية هو ليس تقليديا. انه خالف ما بدا واضحا لمعظم اسلافه المفكرين. وبعد موت سقراط، انكر الشكاك وجود اي حقائق او امكانية اي معرفة. لذا فان النسبيين في القرن العشرين لم يكونوا في خلاف مع الأسلاف بقدر ماهي عودة لهم، منعشين الافتراضات التي جسّدوها عندما بدأت الفلسفة الغربية. نيتشة اقتبس من بروتوغاراس في مقدمة كتابه (ما وراء الخير والشر)، وكلاهما هو وهايدجر سُحرا بهرقليطس. موجتهم الجديدة كانت حقا معلومات قديمة مضللة، وعودة لحالة الذهن الطبيعي للانسان. في ظل تاثير نيتشة، عادت الاكاديمية الى تلك الحالة الطبيعية: "تقريبا كل طالب يدخل الجامعة يعتقد بان الحقيقة نسبية"حسب قول آلن بلوم في جامعة شيكاغو عام 1987 (انسداد العقل الامريكي). الناقد الادبي كريستوفر ديرك لاحظ ايضا بانه عندما يصل التلاميذ الى الجامعة "فان احسن حكمة يمكن للجامعة تعليمها للطالب هي عدم وجود حكمة"(الهروب من الشك، 1977).
وخلال القرن الماضي، وافق الاكاديميون على النسبية وعملوا على نشرها حتى اصبحت فكرة شائعة.
ولكن كما ادرك نيتشة ذاته، اذا كان لا وجود لشيء حقيقي فان الصوت الوحيد الذي يستحق الانصات له هو الصوت الأعلى والاكثر استمرارية. المحصلة الطبيعية لهذا الخداع هو دونالد ترمب الذي فاز بالرئاسة ليس رغم اكاذيبه وانما بسببها.
بدون وجود ايمان بحقائق معروفة سنُترك تحت رحمة اي رجل مغامر يفرض الحقائق بالقوة المفرطة. في هذه النسبية المقيتة، يكون سجل التصويت للرئيس او الاستحقاق الخالص او الايديولوجية السياسية هو المعبّر عن الحقيقة. حين يدّعي بان هناك غش كبير في التصويت، او ان اوباما وُلد في كينيا، فهناك القليل ما يمكن القيام به لنقول له لا.
ان البديل الوحيد لهذه النسبية القديمة هو الفرادة الابداعية للفكر السقراطي. انه ثورة ثقافية ضد الإنكار التلقائي للحقيقة الموضوعية. نحن فقدنا نزعة هذا الانحراف الغربي - الخروج الراديكالي عن عدم اليقين الهيرقليطسي الأصلي، وبهذا لا تصبح سياستنا سياسة ما بعد الحقيقة بمقدار ما هي قبل الحقيقة. اذا اردنا جعل ترامب مسؤولا عن كذبه، علينا ان نفترض ذلك كشيء موجود مع وجود الكذب. لذا امامنا الخيار: هل نستمر في انحدارنا نحو النسبية؟ ام نواصل دفاع سقراط المثير ونؤمن في الحقيقة المطلقة؟
اضف تعليق