حبس اللبنانيون أنفاسهم على وقع الإنباء التي أعقبت الاستقالة/الصدمة التي تقدم بها من الرياض رئيس وزرائهم سعد الحريري... ودخل اللبنانيون في دوامة من المعلومات والشائعات التي ذهبت في كل اتجاه، لكن معظمها رجّح خيار حرب إقليمية جديدة، تنطلق من لبنان وتبدأ به، وتأتي على أخضر هذا البلد الصغير، ويابسه.
على أن الرواية التي لاقت رواجاً عظيماً بين اللبنانيين، تحدثت عن "إقالة" الحريري في الرياض ومن قبل قيادتها، وليس عن استقالة طوعية، وكثيرون لم يأخذوا على محمل الجد، حكاية أن رئيس الحكومة مهدد في أمنه الشخصي وحياته، كما أن كثيرين منهم، رأوا أن الحريري نفسه هو أول من أصيب بالصدمة والمفاجئة جراء "إقالته"، فالرجل قبل أربع وعشرين من استدعائه للرياض وحيداً إلا من مساعدين/مرافقين شخصيين، كان على مبعدة أمتار من "المربع الأمني لحزب الله" يتحدث عن توسعة المطار وتهيئته لاستقبال خمسة ملايين سائح سنوياً، ورزنامة الرئيس حافلة بالمواعيد والاستحقاقات التي لا يمكن ضربها أو الالتزام بها لو كانت لديه "ذرة" نية للاستقالة، وخطابات الحريري الأخيرة كانت مفعلة بالأمل والتفاؤل والفخر بما أنجزته حكومته في غضون فترة قياسية، وبدا محارباً صلباً لمشاعر الإحباط التي تسربت إلى نفوس فريقه من المستقبل و 14 آذار وبيئته السنيّة الحاضنة، فكيف لرجل بهذا الوضع وفي مثل هذا الموقف، أن يستقيل، وأن يستقيل متجاوزاً كل الأعراف والتقاليد، من الرياض وليس في بيروت، وعبر شاشة التلفزة السعودية، وليس شاشة التلفزة الوطنية أو حتى شاشة تياره: المستقبل؟.
الانطباع العام في بيروت، أن الرجل "خرج ولن يعود قريباً"، وأنه "أقيل" ولم يستقيل، حتى أن البعض بدأ بتمحيص نص خطاب الاستقالة، وما إذا كان ينتمي للغة الحريري وقاموسه، أم أنه "كُتب" له... البعض للآخر ذهب أبعد لتحليل صورة جمعته على تويتر مع السفير السعودي الجديد إلى لبنان، وما إذا كانت التقطت في منزل الحريري أم في فندق ريتز كارلتون، حيث يُحتجز عدد من الأمراء والوزراء في سياق حملة على الفساد، أو من ضمن ترتيبات انتقال السلطة، لا فرق.
خلف هذه الانطباع العام، ينقسم اللبنانيون في تحليلاتهم: قسم يدرج الاستقالة في سياق الأحداث الداخلية التي شهدتها المملكة في غضون الساعات التي سبقت الاستقالة، باعتبار الرجل جزءا من تركيبة الحكم في المملكة، بوصفها سعودياً بالتجنيس، وجزءاً من لعبة المال والسياسة في المملكة، وحليفاً لفريق وخصماً لفريق آخر... القسم الثاني أدرجها في سياق تصعيد الحروب الكلامية بين الرياض وطهران، والتي تُرجمت إلى "حروب وكالة" بين المحورين، من دون استثناء لبنان هذه المرة، كساحة من ساحات الاشتباك بين البلدين، وسط مخاوف متفاقمة، من مخاطر رفع الغطاء "شبكة الأمان" الإقليمي – الدولي الذي تمتع به هذا البلد طيلة سني الأزمة السورية السبع العجاف.
ولا شك أن آخرين، ربطوا الأمرين معاً، فأدرجوا "إقالة" الحريري في السياقين معاً، ترتيب بيت الحكم في المملكة وتصاعد حدة التوتر بين إيران والسعودية... والحقيقة أن السياقين ترابطا وتداخلا كما لم يحدث في تاريخ المملكة الحديث، خلال السنوات الثلاث الفائتة، حيث ارتبط كثير من السياسات والأزمات الإقليمية المفتوحة من حول المملكة، بمجريات الوضع الداخلي وترتيبات نقل السلطة بين الأجيال والأفرع والأصول، لكن الأمر المفاجئ هو إدخال لبنان في "قوس الأزمات" هذا، بعد أن ظل متوقفاً عند حدوده، ومقتصراً على دول الأزمات التقليدية: اليمن، سوريا، العراق وأخيراً قطر.
إحساس اللبنانيين المبهم، بأن الحريري "أقيل" ولم يستقيل، جعل ردود أفعالهم تأخذ منحى مغايراً تماماً، إذ حتى خصوم الحريري لم يحملوا عليه، ولم ينددوا بقراره، بل آثروا التريث في إطلاق الأحكام والاتهامات، بل أن بعض هؤلاء الخصوم، أبدى تعاطفاً مع الرجل في محنته، ودعا له بالفرج القريب، وحتى حزب الله، خصم الحريري والمملكة، والذي كان موضوع الهجوم في كتاب الاستقالة، بل وسبب الاستقالة ذاتها، اتخذ موقفاً متحفظاً ومتريثاً بانتظار الاطلاع على ملابسات الاستقالة ومصير رئيس الحكومة، فظهر زعيم الحزب حسن نصرالله، على شاشات التلفزة، كمحلل سياسي، يقرأ في الاحتمالات ويكتفي بطرح الأسئلة والتساؤلات، مؤثراً طمأنة الرأي العام اللبناني وتهدئة روعه، حفظاً للاستقرار والأمن، وصوناً للعملة الوطنية من انهيار محتمل.
المملكة حرصت على تبديد الانطباع بأنها المسؤولة عن استقالة الحريري أو إقالته، وسارعت إلى تبديد الاعتقادات بأن الرجل يتعرض للاحتجاز أو يخضع للإقامة الجبرية، وعندما لم تكف صورة على توتير جمعت الحريري بسفيرها الجديد إلى لبنان، جاء استقبال الملك للحريري كشهادة دامغة على أن الرجل حر طليق، مع أنها لا تنفي الاعتقاد بأن الرجل "أقيل" ولم يستقل.
على أية حال، فإن إقالة الحريري أو استقالته، كانت هزة أرضية بأعلى تدريجات "ريختر"، صحيح أن اللبنانيين أظهروا رباطة جأش، وجسدوا الحرص على تفادي الانزلاق إلى قعر الهاوية، لكن الصحيح كذلك، أن أبواب لبنان باتت مشرعة على احتمالات الفراغ الدستوري وإرجاء الانتخابات وانهيار الصفقة الهشة التي جاءت بالعماد ميشيل عون إلى قصر بعبدا والحريري الى السراي الحكومي.
والأهم من كل هذا وذاك، أن أبواب لبنان باتت مشرعة أمام احتمالات التصعيد الداخلي و"حروب الوكالة" والتدخل الإسرائيلي واسع النطاق، وبغطاء عربي ودولي هذه المرة، وبتشجيع من إدارة ترامب التي وضعت نصب أعينها، محاربة إيران واستئصال حزب الله... لكن من السابق لأوانه، التكهن، بكيف ومتى سيحصل كل هذا... في لبنان، نعرف أن حرباً ضروساً ستندلع ذات يوم، لكننا لا نعرف كيف ومتى وأية أطراف وما الشرارة التي ستشعل سهلاً، وما إذا كانت إقالة الحريري أو استقالته، هي هذه الشرارة أم لا... المستقبل القريب، بل والقريب جداً، سيجيب على كل هذه الاسئلة والتساؤلات.
قبل أيام، كتبت في الزاوية، مرجحاً سيناريو ذهاب اللبنانيين إلى "صناديق الاقتراع" بدلا عن "صناديق الذخيرة"، يبدو أنني كنت متفائلاً بأكثر مما ينبغى، ولا أريد أن اكون اليوم متشائماً بأكثر مما ينبغي، دعونا نكتفي بـ "التشاؤل".
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية
اضف تعليق