صناعة المجتمع المعاصر، باتت بحاجة قاطعة الى صناعة إنسان متطور، يمتلك عقلا متميزا، وله رؤية متطورة في ثنائية الفكر والعمل، فإذا أردت أن تصنع دولة متميزة، عليك بصناعة الإنسان، وهذه هي مهمة الفكر الساعي الى التجديد والرافض للتنميط والقولبة، فأصحاب العقول الحيوية هم وحدهم القادرون على صنع الدولة المتميزة، بعد توافر شرائط عدة، أهمها بناء الشخصية العلمية العملية الديناميكية الفاعلة.
والجانب الأهم في بناء الشخصية، أن ينشأ الإنسان في حاضنة عادلة، تنزع الى العلم، وتتميز بجدلية الفكر، وتنفتح على الآخرين، وتربط دائما بين الأفكار والتنفيذ المادي لها، فهنالك عقول تمتلك العلمية والتخطيط مع قوة الإرادة والتصميم على التغيير، هؤلاء يمكنهم بناء الأمم والدول من خلال الإرادة والعلم والتجديد والتنفيذ، أما على المستوى الجماعي فينبغي أن تكون شخصية المجتمع الجماعية من هذا النوع أيضا، حتى لا تشعر بالخيبة ومن ثم يداهمها الشعور بالغربة، وهي تعيش في موطنها، وبين أهلها وفي حاضنتها الاجتماعية.
ليس غريبا أن يجد الفرد نفسه في محيط لا يرغب به، وهذه إشكالية ينبغي مواجهتها بتطوير نظام العدل الاجتماعي، على أننا ينبغي أن نعترف بأن حالة الاغتراب التي يشعر بها الإنسان تجاه المحيط الذي يعيش فيه، ليست وليدة اليوم، وإنما كان الإنسان ولا يزال يواجه الوجود بكثير من الغموض، لكنه غالبا ما يبحث عن الحلول المناسبة لتفسير الظواهر الغامضة التي تواجهه، ويبحث أيضا عن سبل الحلول الممكنة، إذاُ هاجس الغربة يعيشه الإنسان بسبب علاقته مع الوجود والكون، ويحاول من خلال الإيمان التام، وإقامة علاقة جوهرية مع الأديان، والمضامين الإنسانية، تحميه من الإحساس الموجع بالغربة، ولعل جل الأسباب التي تدفع بالفرد الى الإحساس والشعور بالاغتراب، تكمن في طرائق العيش التي يحصل عليها من محيطه الاجتماعي، فهي غالبا ما تكون ناقصة، ولا تشجع على تطوير العقل، واستخدام الفكر بطرائق محدثة ودافعة نحو جذوة التغيير اللا نمطي.
نظام العدل الاجتماعي
وكي تستفيد الأمة أو المجتمع، وحتى الدولة من مواطنها، ينبغي أن تتوفر له الحماية من الشعور بالاغتراب، فمن لا يعيش العدالة والفرص المتساوية يشعر بالغربة في محيطه الاجتماعي نفسه وليس خارج البلد، أما إذا كان محميا من التجاوز، حقوقه محفوظة وكرامته مصانة، وقيمته الإنسانية محصّنة، فإنه في هذه الحالة لا يشعر بالاغتراب، لأنه يشعر بغنى النفس والروح والعقل ويجد التعامل المحترم يحيط به، فيكون شخصيته متوازنة، وتمتلئ ذاته بالاعتبار العالي، فيندفع نحو التغيير الأفضل، ويكون قادرا على التغيير الجذري، وتنمو إرادته، ويسهم بفاعلية عالية بالتغيير مع الجماعة، بهذه الطريقة يمكن أن تُبنى المدن والأوطان.
وفي حالة حصول العكس، فإن الغربة سوف تسحق الفرد، وتدمر آماله، وتشل تفكيره، فالغربة كما ينص التعريف المباشر لها، هي ابتعاد عن الحاضنة الاجتماعية والمكانية الأولى، لأسباب خارج القدرة المتاحة، فضلا عن وجود ضغوط مختلفة، اقتصادية او سياسية في الغالب، وقد تكون غربة مكانية داخل الوطن، أي من مدينة الى أخرى، مع اختلاف المحيط الاجتماعي، ويُقال أن أصعب أنوع الاغتراب هو ذلك الشعور بالنفي أو العزل أو الإقصاء داخل المجتمع والمدينة والدولة التي ينبغي أن تحمي أفرادها.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ وَ الْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ). وما أصعب أن تكون غريبا في وطنك، وهذا يدل على أنواع أخرى للغربة، قد تختلف عن الغربة المكانية، ويؤكد هذا القول، أن الإنسان قد يكون معرضا لحالة الاغتراب، والشعور بالعزلة، والمعاناة من عدم الانسجام مع محيطيه، حتى لو كانت يعيش في قلب الوطن، أما الأسباب، فقد جعل الإمام عليه السلام من الفقر، سببا أساسيا لمثل هذا الشعور الخطير، إذ كيف يمكن للفرد أن يعاني من الغربة ونتائجها وهو يعيش في وطنه، وبين شعبه وأهله وأصدقائه وخلانه، فضلا عن ذكرياته وكل الجوانب التي تكمّل شخصيته وتاريخه وعلاقاته؟ فلابد أن يكون هنالك خلل ما حدث في منظومة القيم وانعكس على نمط الحياة وطبيعة الفكر، فيكون من يشعر بالغربة في وطنه رقم فائض لا فائدة منه.
المعاناة والشعور بالعزلة
والسبب لا يعود له بالطبع، فإذا تم بناء شخصية الإنسان جيدا، وتم الاعتناء بفكره ومبادئه، سوف يكون عامل مشجع على تطوير الفكر والعمل، وقد أوجز النص البلاغي المذكور أعلاه، ببساطة كبيرة وواضحة، جانبين متناقضين، من العلاقة بين الإنسان والغربة، الجانب الأول، الغربة خارج الوطن، والجانب الثاني الغربة خارج الوطن، والمعيار الذي يقارن بين فداحة هذه الغربة او تلك هو الغنى، أو المال، فإذا توافر المال في الغربة، شعر الإنسان بأنه محمي ومصان بقوة المال، وهو ليس بحاجة الى أن يمد يده لأحد، إن توافر الأموال أغنته عن الحاجة وهو في الغربة، لذلك فان هذا الأمر سيمنحه شعورا بالتوازن يفتقد له عندما كان يعيش بين أهله، لهذا على الدولة والنخب التنبّه الى أهمية العدل والمساواة في الفرص والمؤهلات.
في الخلاصة، يمكن للفرد أن يكون عنصر بناء فريد من نوعه، ولكن يجب أن ينشأ في محيط اجتماعي عادل، مجدد وغير نمطي، ويرفض القولبة والتحجر، ويشجع العقل على الديناميكية والتفاعلية والبحث عن الفكر الجديد دائما، فإذا وجد الأذكياء المتميزون الظروف التي تطور أفكارهم وقدراتهم لن يشعروا بالاغتراب، ولن يغادروا الوطن في أي حال.
كما أنهم سوف يحثون أنفسهم وعقولهم وأفكارهم على المساهمة الفعالة في بناء الذات أولا، والجماعة ثانيا، والمجتمع والدولة ثالثا، من خلال العلمية والتجديد المستدام، ولابد من الاستفادة على نحو مستمر من مبدأ العدل الاجتماعي، لتجنيب العقول المفكرة المتميزة عبء الشعور بالغربة داخل الوطن، فهو من أقسى ما يمكن أن يواجهه الفرد المتميز في وطنه، لذلك حتى تصون الدولة مواطنيها، عليها أن تتمسك بمعايير العدالة والحماية وصيانة الحقوق والحريات ودعم المتميزين بلا توقف.
اضف تعليق