في المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في باريس بتاريخ 24/10/2017 طرح أحد الصحفيين الغربيين سؤالا استفزازيا اعتاده الصحفيون الغربيون في توجيهه للمسؤولين العرب حول انتهاكات حقوق الانسان في مصر.
بدا الرئيس المصري منفعلا في اجابته لكن مضمون اجابة السيسي حوّل الاستفزاز الى موضوع ادانة للإعلام لاسيما الاعلام الغربي الذي ظلت تسيطر عليه أفكار وتصورات الغرب وأحكامه المسبقة حول الشرق الاسلامي، وبالقدر الذي لا ينكر فيه موضوع انتهاكات حقوق الانسان في عالمنا العربي، الا ان تقويمنا لطبيعة هذه الحقوق وموضوعها ليس بالضرورة ينطبق مع الفهم الغربي لهذه الحقوق، ولذلك كان الرئيس المصري حريصا على تمييز وتحديد طبيعة هذه الحقوق، فهو لم ينكر او يثبت وجود هذه الانتهاكات بل عمد وبذكاء سياسي الى تغيير بوصلة الحديث وباتجاه حقوق الانسان أيضا لكن هذه المرة بناء على متطلبات وازمات العالم العربي.
لقد تحدث السيسي عن هذه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل معاناة الشعب المصري مؤكدا فعلا على انتهاكات حقوق الانسان المصري في هذا المجال لاسيما الصحي والتعليمي والخدمي بل والأهم من ذلك الواقع المعيشي للشعب المصري، وهي المفردات والوقائع التي تغيب عن الفكر الليبرالي المعني بحقوق الانسان في زمننا هذا.
فالتركيز على حقوق الانسان وفق صياغات الفكر الغربي لها والتي تأثرت به وبشدة اتجاهات الليبرالية في البلاد العربية، وتتمثل هذه الصياغات الغربية في الديمقراطية السياسية وحق التعبير وحق المساواة الجنسية وحق المشاركة في الحكم وإقصاء الدين عن المجال العام واحالته الى المجال الخاص، وبالقدر الذي نشهد حضورا قويا لهذه المفردات والافكار في الخطاب الليبرالي الحديث والتي أخذت تتحول الى شعارات لدى الليبراليين العرب، فإننا نشهد غيابا تاما للحديث عن حقوق الانسان العربي في الثروة الوطنية وحقوقه في التعليم والصحة والخدمات، وهذا بطبيعته يعود الى هوية المثقف الليبرالي الذي ينتمي باستمرار الى الطبقة الوسطى والباحثة عن مصالحها الاقتصادية والاجتماعية في الفضاء السياسي للدولة، وبطبيعة الحال لا نتعرض الى مشروعية تلك المصالح لكننا نقر بحقيقة تاريخية، ان أفراد الطبقة الوسطى على المستوى الحياتي تختفي لديهم المعاناة والمشاكل على المستوى المعيشي او تردي المستوى التعليمي والصحي بل وحتى الخدمي وان كان تردي الوضع الخدمي يشمل الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة في بلداننا.
وتاريخيا كانت مبادئ حقوق الانسان نشأت ونمت في ظل نشوء الطبقة الوسطى في أوربا لتتحول بواسطة هذه المبادئ كأطروحة معرفية اقترنت بالحداثة، وبواسطة قوتها المالية الى الطبقة البرجوازية التي استولت على حركة الاقتصاد وحركة التنوير بعد ازاحتها للنظام الاقطاعي، وهكذا ظلت مبادئ حقوق الانسان لصيقة بالفكر البرجوازي وأنظمته الرأسمالية اللاحقة في التطور عنه، واذا كانت الحداثة البرجوازية تنمّي او تغلّب منطق الفكر والمعرفة فان الرأسمالية تغلّب منطق المصلحة والمنفعة البراغماتية، وتحت تأثير ماكنتها الاعلامية وقوتها المالية واحتكارها تكنولوجيا المعلومات احتكرت العولمة وسعت الى تمدد ثقافة الغرب الرأسمالي لاسيما بصيغته الأميركية، وقد تضمنت تلك الصيغة أفكار الليبرالية السياسية لتكون موديل الفكر والمعرفة الحديثة، وقد مس هذا الموديل حتى الاتجاهات الاكاديمية لاسيما وان المنهجيات الفكرية الحديثة تعول تماما على الفكر الغربي الذي اخذ ينحو أخيرا باتجاه نموذج الحياة الأميركية.
لقد ظلت الليبرالية في تمددها العولمي – من العولمة – تحافظ على اقترانها بالطبقة الوسطى في المجتمعات التي انخرطت في حركة العولمة سواء باختيارها او رغم ارادتها ومنها مجتمعاتنا العربية المستلبة الإرادة، والتي تسيّدت فيها الاتجاهات الليبرالية على المشهد النخبوي الثقافي لاسيما في المجال الثقافي السياسي الذي بدا هو الآخر متسيّدا على الثقافة العربية، لكن هذه الليبرالية اخذت الصيغة الاعلامية اكثر من صياغاتها الثقافية والمعرفية، ويدل على ذلك فقر المكتبة العربية من الكتابات العربية في الليبرالية سوى الكتب المترجمة الى العربية وفي اغلبها لكتاب أميركيين في الوقت الذي نشهد حضورا اعلاميا قويا للثقافة والدعاية الليبرالية.
وبذلك تم تهميش وسحق مطالب ومعاناة الطبقات الفقيرة في الخطاب الليبرالي العربي الحديث، وهو تهميش وسحق يتأسس في بنية العقيدة الليبرالية وفيها تغيب عناصر الخطاب المكوّن للمطالب الجماهيرية والشعبية في مجتمعاتنا، وهي تتحدد بمبادئ العدالة الاجتماعية وكسر الاحتكارات الرأسمالية والتصدي لسياسات السوق الحرة وكفالة حق الشعوب في ثرواتها والتوزيع العادل والمتساوي للثروة الوطنية وكفالة الدولة لهذه الحقوق، والتي تسعى المؤسسات المصرفية والنقدية الدولية الرأسمالية الى تحييد الدولة في سياساتها المالية والاقتصادية عن هذه البرامج والحاقها بنظام الخصخصة لتتسع الهوة بين الاغنياء والفقراء، من خلال تخلي الدولة الوطنية عن شعوبها وبرامجها التنموية لصالح الطبقات الاكثر ثراء وفحشا في الثراء وهو الهدف غير المعلن في الخطاب الليبرالي.
لقد تراجعت قوة التظاهرات في ساحة التحرير في بغداد بعد ان غادرها الفقراء بمطالبهم في مكافحة البطالة وتوفير الخدمات، وهي الموضوع الأول والاساسي بالنسبة لحقوق الانسان المفترض الايمان بها وهي بطبيعتها مطالب بعيدة عن الفكر الليبرالي ذي البنية الرأسمالية.
لقد كانت تلك المطالب والتظاهرات قوية في بدايتها بقوة هذه المطالب لكنها حين تحولت الى شعارات للإصلاح السياسي خفت الحدة الجماهيرية فيها بعد ان أحست تلك الجماهير من الفقراء ان تلك الشعارات لا تعنيها، فشعارات الاصلاح السياسي هو ما يعني الطبقة الوسطى وهو عين ما تركز عليه الطبقة الوسطى في بنية مطالبها الاساسية من اجل ضمان الوصول الى السلطة بواسطة هذه الشعارات السياسية والتي لا يمكن ان تتحول الى الثورة التي تنطلق دائما خطاباتها من رحم المعاناة ومآسي الفقراء ودائما يكون موضوع خطابها غير موضوعات خطاب الليبرالية.
لقد كان الرئيس السيسي محقا في تأشيره معاناة الطبقات والفئات الاكبر عددا في المجتمع المصري كموضوع لمبدأ حقوق الانسان بعيدا عن وجهته الليبرالية الرأسمالية.
اضف تعليق