فرض الواقع العراقي الجديد بعد عملية التغيير تحولات كبيرة منها أسلوب وفلسفة إدارة الحكم في البلاد، وأيضا القواعد الدستورية المقننة لها ولغيرها من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومع هذه التحولات الجديدة انطلقت أحلام الكثير خصوصا أحلام مجتمعات مثلت أرضها وخيراتها ثقلاً اقتصاديا ومجتمعيا وتأريخاً لا يمكن تجاهله لكنها ومع الأسف تعيش منذ تأسيس الدولة العراقية والي يومنا هذا في غياهب الفقر والحرمان والتهميش في شتى النواحي، وكانت عملية التغيير الفرصة الجوهرية في تبديد هذه الوقائع إلا إن غياب الوعي والإرادة والتخبط السياسي لدى النخب الحاكمة بعد عام 2003 العامل الأبرز في جعل أهالي هذه المحافظات الجنوبية وخصوصا محافظة البصرة يفكر أهلها في استثمار الفرصة التاريخية التي كفلها لهم الدستور بحق إقامة الإقليم.
فالدستور العراقي الذي اقر عام 2005 تضمن مبدأ حق إقامة الأقاليم واعتبرها الأساس في شكل الدولة من الناحية الإدارية والتنظيمية وهذا الحق منحه إلى كل محافظة أو عدد من المحافظات، فالمادة (119) منه تنص: يحق لكل محافظةٍ أو أكثر، تكوين إقليم بناءاً على طلبٍ بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى الطريقتين:-
الأولى: طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلسٍ من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم.
الثانية: طلب من عُشر الناخبين في كل محافظةٍ من المحافظات التي تروم تكوين الإقليــم أيضاً.
وكذلك نصت المادة (120) من الدستور على أن يقوم الإقليم بوضع دستورٍ له يحدد هيكل وسلطات الإقليم، وصلاحياته، وآليات ممارسة تلك الصلاحيات، على أن لا يتعارض مع هذا الدستور الاتحادي.
ومطالب سكان مدينة البصرة المطالبة بإقامة إقليم مشروعة وفق الواقع الدستوري والقانوني، لكن في المقابل تجربة إقليم كردستان كشفت الخلل والتناقض في هذه المواد مع أعراف وقوانين الأقاليم الفدرالية في دساتير دول العالم المتبنية للنظام الفدرالي، البعض يبرر تجربة كردستان بالأمر الواقع الذي سبق التقنين الدستوري للأقاليم، ومن ثم قد يصبح التشريع الدستوري للأقاليم مقاسا على إقليم كردستان، فمطالب إقامة إقليم البصرة وقعت ضحية هذه الوقائع الدستورية، حيث موارد المدينة الاقتصادية الضخمة يقابلها الواقع الاقتصادي المتردي، العامل الأخر في رواج فكرة تبني الإقليم من قبل سكان مدينة البصرة فما نسبته80%من إجمالي استخراج النفط وتصديره يخرج من هذه المدينة وبالتالي تمثل إيراداتها التي تدخل خزينة الدولة سنويا حوالي 75% من مجموعها الكلي.
وأيضا مرافئها وموانئها البحرية تعد المنافذ الوحيدة للعراق التي يطل بها على العالم، وبذلك فهي عماد التجارة العراقية في التصدير والاستيراد لمختلف أنواع السلع والبضائع. وكذلك تعتبر مدينة التكامل الاقتصادية لتميزها بالأراضي السهلية الشاسعة الصالحة للزراعة لتوفر المياه اللازمة لذلك، فنهري دجلة والفرات يلتقيان فيها أما الموارد الطبيعية الأخرى إضافة الى النفط فهي ذات إنتاج وخزين استراتيجي هائل من الغاز، وأيضا الجانب السياحي حيث تمثل الكثير من المعالم السياحية. في المقابل تعاني من أزمة تقديم الخدمات وغياب البني التحتية وتدهور التعليم والصحة التي لا تتناسب ومواردها الاقتصادية أيضا، كذلك ما عانته المدينة من تأثير حرب الثماني سنوات من الحرب مع إيران ومن بعدها احتلال دولة الكويت، خلفت تلك السياسات أثارا اجتماعية وبيئية واقتصادية وصحية منها الإمراض الوبائية والسرطانية التي تعد الأكثر انتشاراً فيها بسبب الحروب في هذه المدينة، والتلوث البيئي الذي ينتشر في أجواء هذه المدينة بسبب صناعة النفط والبتروكيمياويات.
وللواقع السياسي الأثر الأخر في تبني خيار الإقليم لدى سكان هذه المدينة، والذي يكمن بعدم تمثيلها بما يتناسب ووزنها في المواقع التنفيذية في الوزارات والمواقع الحساسة الأخرى في الحكومة الاتحادية في بغداد، يرجع البعض سبب ذلك إلى واقع الديمقراطية التي تحكم البلد والمتمثلة في الأحزاب والكيانات السياسية المتنافسة فيما بينها على المواقع السياسية التنفيذية والإدارية في مواقع الحكومة الاتحادية، فالحياة السياسية في العراق بعد التغيير أفرزت سيطرة الأحزاب السياسية العائد اغلبها من المهجر على مقاليد الحكم وهي (الأحزاب الشيعية والأحزاب السنية والأحزاب الكردية).
مدينة البصرة ولكونها ضمن نصيب بعض الأحزاب الشيعية أصبحت بعيدة عن التمثيل التنفيذي الفعال في الحكومة المركزية في بغداد لان بعض الأحزاب الشيعية قائمة على الزعامات الحزبية وبالتالي فأن اغلب زعمائها والخطوط الأولى لهم من المحافظات الوسطى وبغداد، وبالتالي أعطيت المواقع التشريعية في البرلمان لممثلي هذه المحافظة بينما أنيطت المحافظات الوسطى من العراق بالمواقع التنفيذية الاتحادية، فتقديم الخدمات ورسم الاستراتيجيات لإعادة الإعمار وفق التطبيقات العملية للنظام السياسي العراقي بعد عام 2003، تعطى للسلطة التنفيذية من وزارة ومواقع وهياكل تنفيذية أخرى كلمة الفصل في تقديم الخدمات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها وليس للمواقع التشريعية التي أصبحت ليس أكثر من منابر للتصريحات الإعلامية.
هذا ما لمسه البصريون خصوصا وسكان الجنوب عموما من ممارسة بعض الأحزاب الشيعية وتهميشهم لهم في السلطات التنفيذية الاتحادية وبالتالي حرك لديهم النزعة الفدرالية وذلك بإقامة إقليم خاص بهم يبعدهم عن هيمنة وسطوة بعض الأحزاب والقوى السياسية المسيطرة في الحكومة المركزية في بغداد، أمام هذه المبررات والوقائع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أثارت فكرة الإقليم لأهالي مدينة البصرة، نجد هناك رفض وتسويف وعدم ترحيب من بعض القوى السياسية والاجتماعية وحتى من أهالي هذه المدينة لخطوات إقامة الإقليم مستندة إلى الآتي:-
1- الخوف من تحول الإقليم إلى بؤرة جديدة من بؤر الصراع بين مراكز القوى فيه سواء على السلطة أو الثروات وأدارتها والخوف كذلك من التدخلات الإقليمية فيه.
2- قوى وشرائح اجتماعية شعبية واقتصادية واسعة في العراق تتخوف من تكرار تجربة إقليم كردستان في الجنوب وذلك لممارسات الإقليم التي لازالت تثير الكثير من الأزمات للحكومة الاتحادية والخروقات المتعددة للصلاحيات المحددة له وتجاوزها على صلاحيات الحكومة الاتحادية منها مسألة النفط والموارد الطبيعية، وكذلك الحدود الإدارية للإقليم وسيادة الحكومة الاتحادية عليها وعلى غيرها.
2- يبرر البعض أن الأكراد عند إقامتهم لإقليم خاص بهم كان ضرورة واقعية فرضتها عدة وقائع منها اللغة والعادات والتقاليد والجغرافية بينما البصريون يفتقرون لهذه المبررات.
3- يطرح البعض أن مسألة إقامة الأقاليم في العراق وفي ظل الظروف التي يعيشها اجتماعياً وامنياً تعني التقسيم المستقبلي لهذه البلاد وان الأقاليم تتطلب مرحلة من مراحل النضج الديمقراطي وهذا غير متوفر في ديمقراطية العراق.
بين الإصرار والحماسة لإقامة إقليم البصرة من قبل قوى سياسية واجتماعية وشعبية بصرية متعددة وبين الرفض والتسويف والمماطلة الحكومية الاتحادية في بغداد لها وكذلك تخوف بعض النخب الفكرية والأدبية والاجتماعية لهذه الخطوة نضع مجموعة من الحلول التي تضمن للبصرة حقوقها التي ترى إن عودتها لا تتم إلا بإقامة الإقليم منها ما يلي:-
1- مبادرات كثيرة قدمت في السابق منها مشروع (البصرة عاصمة العراق الاقتصادية) وكذلك مشروع البترودولار الذي يخصص من مواردها النفطية ليضاف إلى مخصصاتها الاتحادية من الموازنة على الحكومة الاتحادية.
2- تفعيل اللامركزية الإدارية وذلك بإعطاء صلاحيات واسعة لحكومتها المحلية سواء كانت تشريعية أم تنفيذية.
3- إعطاء أولوية اقتصادية لهذه المدينة وزيادة ميزانيتها الاستثمارية وميزانيتها من تنمية الأقاليم الخاصة بها وبما يتناسب ومواردها وصادراتها النفطية.
4- معالجة البطالة في هذه المدينة ومنها إعادة النظر بالعقود مع الشركات الأجنبية العاملة فيها سواء كانت نفطية أو غازية وغيرها وذلك بتضمين هذه العقود مع هذه الشركات، تشغيل الأيدي العاملة في هذه المدينة وإعطاءها نسبة عالية، حيث اغلب العاملين في هذه الشركات حاليا هم من خارج هذه المدينة سواء من المحافظات الأخرى أو عمالة أجنبية.
5- إعادة النظر بالتعريفة الجمركية وذلك بفرض ضرائب مجزية على الإيرادات الداخلة للعراق والتي اغلبها تدخل عن طريق موانئ هذه المدينة، واستثمار الجزء الأكبر من عائداتها في إعادة أعمار الحركة الملاحية وكذلك موانئ ومدن سياحية في هذه المدينة.
وفي النهاية مدينة البصرة تسعى من خلال الكثير من الفعاليات إلى إقامة إقليم خاص بها ولاشك أنها مطالب لها ما يبررها اقتصادياً وسياسياً، كما أن فكرة تبني الأقاليم في الأنظمة السياسية يعدها البعض أفضل فكرة أنتجها العقل البشري لحد الان في إدارة المدن والبلدان بواسطة أبنائهم وحكوماتهم الإدارية الخاص بهم، فهي في هذا الحال تتحول إلى اقرب ما يمكن وصفهم في حال تطبيق الأقاليم إلى ورش تجارية تتنافس في ما بينها في تقديم الخدمات والبني التحتية وغيرها، وتترك المسائل الخارجية والدفاعية والمالية عن هذه المدن من نصيب الحكومة المركزية، هذا ما تقوم عليه الفدراليات المتقدمة في دول العالم، وهذا ما يمكن أن تتبناه الحكومة العراقية في إدارة البلاد في المرحلة القادمة لكن وفق بيئة سياسية واجتماعية مستقرة.
اضف تعليق