يبدو أن الانقسام قد استنفذ اليوم جُل مقومات وجوده إلا تلك المصالح الشخصية لحفنة قليلة من أولئك المستفيدين الصغار والذين لم يعودوا مؤثرين، ومن الواضح أن الانقسام الفلسطيني بات اليوم عقبة أمام أي ترتيبات قادمة لتسوية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. وعليه فمن الواضح أننا اليوم أمام قرار دولي أمريكي بإنهاء الانقسام الفلسطيني وهو ما يعني أننا نعيش في الأسابيع الأخيرة لهذا الانقسام الذي ناهز عقدا من الزمن وفشلت كل المحاولات الوطنية المحلية والاقليمية والأممية في إنهائه، لكن الانقسام وخلال عقد من الزمن أدى ماعليه من مهام استراتيجية لم يكن بمقدور قوى عظمى أداءه، فلقد استطاع الانقسام زعزعة ثقة العقل الجمعي الفلسطيني في المشروع الوطني الفلسطيني بشقيه النضالي المسلح والسياسي التفاوضي اللذان مثلاهما طرفي الانقسام.

أيديولوجياً فخلال عقد من الزمن شكل الانقسام فرصة سانحة لإسرائيل لتسديد ضربات سياسية وعسكرية هدفها إزالة السقف السياسي لكلا الطرفين وليس خفضه بل استبداله بسقف اقتصادي مرن الحركة نزولا وصعودا، ونجحت اسرائيل خلال الانقسام في ترويض حركات المقاومة المسلحة في غزة عبر ثلاث حروب طاحنة تحول خلاله قطاع غزة إلى قفص محاصر غير صالح للحياة وأجبرت حركة حماس في النهاية على تغير ميثاقها السياسي والقبول بالقرارين 242 و338، وأدخلت حدود القطاع في حالة أمنية لم يسبق لها مثيل منذ العام 67، أما في الضفة الغربية فقد أنهت اسرائيل عبر هجمة استيطانية غير مسبوقة أي أمل في إقامة دولة فلسطينية متصلة علاوة على تنكرها لكل الاتفاقات الموقعة ووصل الأمر لمحاولتها السيطرة الادارية على المسجد الأقصى عبر البوابات الالكترونية ولولا هبة المقدسين لنجحت في تغيير الوضع القائم وانتهى الأمر بتنكرها لحل الدولتين مدعومة بإدارة امريكية منحازة بشكل كامل لها.

ان انهاء الانقسام بفعل الارادة الامريكية والدولية يعكس معالم التسوية التي ستتعامل مع مكتسبات الجميع بما فيها اسرائيل من الانقسام كأمر واقع؛ وهنا يكمن الهدف الأمريكي الاسرائيلي من إنهاء الانقسام كمرحلة أولية من التسوية الغامضة والتي من المرجح أن تبقى كذلك لوقت طويل فيما يستمر تغيير الواقع على الأرض في شطري الوطن تنفيذاً للتسوية غير المعلنة، بينما ينتظر الجميع عبثاً الاعلان عنها.

إنهاء الانقسام الآن بإرادة أمريكية دولية يعني ببساطة أن غزة ستكون ضمن أي اتفاق تسوية قادم وهو ما كانت تعارضه اسرائيل فترة الانقسام بحجة سيطرة حماس عليها، لكن يبدو أن هناك تغير عميق قد حدث داخل حركة حماس وأن الوثيقة السياسية لم تكن إلا قمة جبل الثلج، وفي المقابل اذا ما تفحصنا نتائج الوقائع على الأرض في الضفة خلال عقد الانقسام نستنتج أن اسرائيل بدأت سياسة جديدة في تقليص سيادة السلطة ليس على الأرض بل على السكان عن طريق إحياء سلطة الادارة المدنية للحاكم العسكري الاسرائيلي والتي تجرأت لأول مرة منذ العام 67 على منح بؤر استيطانية وضع بلدية وهو ما يتعدى شرعنة تلك البؤر إلى تطبيع وجودها في الضفة وهو مايعني أن اسرائيل عازمة على تحويل قضية الاستيطان غير الشرعي برمته الى قضية حقوق مستوطنين باعتبارهم سكان طبيعيين في أراضي الضفة الغربية، وهو ما يفتح المجال مستقبلا لتغيير طبيعة أي تسوية للصراع وإنهاء فكرة حل الدولتين لصالح تسوية أقرب تكون فيه غزة عاصمة الكيان الفلسطيني الفدرالي الذي تقسم فيه الضفة بين دولة اليهود المستوطنين والدويلة الفلسطينية المقطعة الأوصال في الضفة بفعل المستوطنات والتي ستكون مرادف لجمهورية صرب البوسنة في دولة البوسنة والهرسك الاتحادية فيما سيمثل الفلسطينيون أغلبية البوشناق المسلمة البوسنية، وتكون إسرائيل بمثابة الجمهورية الصربية.

وقد أدركت القيادة الفلسطينية مبكراً طبيعة ما يجري على الارض واتخذت سياسة برجماتية عميقة التأثير ضمن الامكانيات المتاحة لمواجهة تلك المخططات، وإن كان البعض يرى في تلك السياسة نوعا من القصور إلا أن الاستراتيجية الفلسطينية لمقاومة الواقع المفروض على الأرض تضرب في العمق أي شرعية قانونية لكل ما فرضته وتفرضه اسرائيل على الأرض عبر تثبيت الوضع القانوني لأراضي الضفة باعتبارها ليس أراضي محتلة فقط بل هي أرض فلسطينية لدولة محتلة معرفة الحدود والهوية، وهو ما ينزع أي شرعية قانونية لكل الواقع الاستيطاني ويسحب من إسرائيل أي ورقة سياسية تسعى إلى اكتسابها من تلك الإجراءات على أي طاولة مفاوضات قادمة طبقاً للمرجعيات الدولية لحل الصراع وهو ما يفسر التهرب الاسرائيلي الدائم من نقل ملف التسوية إلى الحلبة الدولية والاصرار على المظلة الأمريكية التي بدت مع الإدارة الجديدة أقل التزام بمقررات التسوية طبقا للشرعية الدولية لصالح ما عرف بصفقة القرن المبهمة التفاصيل.

إن وجود إرادة دولية لإنهاء الانقسام وإن كانت خبيثة الأغراض فعلينا نحن الفلسطينيون أن نستفيد منها لصالحنا وأن نستغلها في إنهاء انقسامنا وأن نعيد توجيه بوصلتنا إلى اتجاهها الوطني الصحيح ضمن استراتيجية فلسطينية قادرة على مواجهة التحديات السياسية القادمة.

* أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
Political2009@outlook.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق