بالرغم من كثر الحديث عن ضرورة المشاورة وفوائدها وآثارها، ووجود المظاهر الدالة على هذا المفهوم في اصطلاحات عدّة، مثل "الشورى" في مجالس النواب والمجالس المحلية المنتخبة وفق النظام الديمقراطي، ومثل "الاستشارة" في اطار الوظائف الحكومية وغير الحكومية، كما نلاحظ وجود هذا المفهوم في اوساط ثقافية وعلمية، بيد أن كل ذلك لم يمنع من استفحال الاستبداد بالرأي لدى البعض، فيظهر على شكل مواقف وسلوكيات، وربما يبقى لبعض الوقت مؤجلاً مراعاة لظروف معينة.
وليس بالضرورة ان تكون مساوئ الاستبداد بالرأي متمخضة من العمل السياسي والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، بل تلاحظ في شتى ميادين الحياة، كونه نزعة نفسية في الانسان المعتدّ بنفسه، فيجنح للاعتداد برأيه ايضاً، لاسيما وان الفكر يمثل داينمو الحركة للانسان، ومقرراً لسلوكه وتصرفاته ومن ثم ثقافته العامة، لذا نلاحظ الاستبداد بالرأي؛ حتى في رب الأسرة وفي حدود البيت الصغير ومع الزوجة والاولاد، وربما يكون في الزوجة او أي شخص في الأسرة له السطوة والنفوذ، مثل الأخ الكبير او الجد وغيرهما.
التستّر بعباءة الديمقراطية
لأول مرة تبلور مفهوم الاستبداد السياسي في بلادنا الاسلامية عندما استفحلت الديكتاتورية والحكم الفردي المتمثل في الملك، فكانت المطالبات بتوسيع نطاق الصلاحيات والسلطات لينال الشعب شيئاً منها، وجرت لاجل ذلك، حركات و ثورات رفعت شعارات "الديمقراطية" و"التعددية السياسية"، وكانت التجربة الاولى في ايران مطلع القرن الماضي، عندما ضاق الناس ذرعاً بديكتاتورية القصر القاجاري وانتزع لأول مرة في الشرق الاوسط والعالم الاسلامي صلاحية اتخاذ القرار وتقرير المصير، وأودعه في "مجلس الشورى الوطني"، بيد أن مسيرة الكفاح ضد الاستبداد أوقع الشعب الايراني في استبداد من نوع آخر، يجعل من "الديمقراطية" صنماً سياسياً لا يجوز التشكيك به، وما أن انبرى شخص مصلح، مثل الشيخ فضل الله النوري، ليعطي ملاحظته على فكرة "المشروطة"، كما هو في اللغة الفارسية، ويقابله بالعربية؛ "الملكية الدستوري"، على أن تكون "مشروعة" ايضاً، وتستوحي مقومات نجاحها من الشريعة الاسلامية وليس من الافكار المستوردة، ثار عليه حراس الصنمية السياسية، وبسبب هشاشة النظام السياسي في ظل آخر الملوك القاجار (محمد علي شاه)، فقد انقضّ ممن كانوا يسمون بـ "ثوار الدستور" على العاصمة طهران، رغم وجود البرلمان واستمرار عمله بشكل رسمي، وكانوا خليطاً من الماركسيين والليبراليين المتغربين ممن أحسوا بخطر الإصلاح الذي كان يروم قيادته الشيخ النوري لثورة الدستور فيكونوا مطرودين من الساحة، وبعد الهجوم على داره تم اقتياده وقتله شنقاً في احدى ساحات طهران بتهم ملفقة لا أساس لها من الصحة والمنطق السليم.
هذه الظاهرة السياسية، ابتليت بها شعوب عدة فيما بعد طيلة العقود الماضية، فالحديث بصوت عالٍ، وتهويل مساوئ الديكتاتورية والاستبداد السياسي المتمثل في الحكم، دفع بشريحة من أهل الفكر والقلم والبيان، للأنزلاق في استبداد جديد بغطاء ديمقراطي، وهذا ما شهدناه في ايران اوساط التسعينات فيما عُرف بـ "الحقبة الخاتمية" نسبة الى الرئيس محمد خاتمي، الذي صعد الى الحكم وصعدت معه موجة "الإصلاحات السياسية" المنادية بمزيد من المشاركة السياسية والتعددية وعدم احتكار السلطة، فكانت الصحف والمجلات وأدبيات "الاصلاح" آنذاك توسم أي انتقاد لهم او إصلاح داخل الاصلاح، بانه معاداة للديمقراطية و لإرادة الجماهير، حتى وإن كان الانتقاد حقّ وحقيقة دامغة.
وللعلم فقط؛ فان هذه النزعة الاستبدادية من الطراز الجديد، لم تكن من بناة افكار ابناء العالم الثالث والدول المستعمرة، بقدر ما هو اشترار التجارب التي خاضها نظرائهم في الغرب في فترات ماضية، وها هي الثورة الفرنسية مليئة بالشواهد على ذلك، وما حصل بين الثوار من تصفيات دموية وحملات قطع رؤوس بالمقاصل ما يثير الدهشة والاستغراب، وذلك بتهم التخوين والانحراف وغيرها، وفي كتابه "بين الاسلام والنظم المعاصرة" يتحدث أبو الاعلا المودودي عن اصحاب "النظريات التي اضرمت لأجلها الحرب الطاحنة على الكنيسة والنظام الاقطاعي، كان على رأسها؛ الحرية..."، بيد أن حملة راية الحرية والتسامح في اوربا انقلبوا الى مستبدين جدد، لذا يعرب المودودي عن استغرابه بان "من عجيب الامر ان كل ما انتزعه البورجوازيون من حقوق متنوعة من أيدي الاقطاعيين وملاك الاراضي بدعاياتهم وجهودهم المتتابعة، بدأوا يستأثرون به دون غيرهم في دور البعث نفسه، ولم تذكرهم حريتهم ومسامحتهم أن في الشعب طبقة اخرى دونهم قد ذاقت من شدائد النظام الاقطاعي وويلاته اكثر مما ذاقوا هم انفسهم".
مكافحة ثقافة الاستبداد
لمن يتصفح تجارب الثورات والثوريين المنادين لمحاربة الاستبداد السياسي المصنوع استعمارياً او ديكتاتورياً، يخال أن هؤلاء هم الضحايا الوحيدون لهذا الاستبداد والقمع وكل اشكال السياسات الديكتاتورية، وليس هنالك شعب وشرائح اجتماعية مسحوقة ذاقت الأمرين؛ في عهد الاستعمار وفي عهد الانظمة الذيلية لها، بما يعني نوعاً من الاحتكارية ربما غير المقصودة، فاذا كان هدف الكتاب والادباء والمفكرين محاربة الاستبداد، هل سيتحقق لهم ذلك والحال هكذا؟.
ان الشريحة المثقفة أعرف من غيرها بطبيعة الاستبداد المغروزة في نفس كل انسان، فاذا كانت ثمة نية حقيقية وعزيمة راسخة لمعالجة هذه النزعة، عليها الاستعداد لخوض المعركة الثقافية بكل ما أوتوا من قوة تأثير على الشارع، لان القضية تعني جميع افراد المجتمع، وليس فقط المسؤول في الدولة، فاذا تمت محاربة الاستبداد ثقافياً وليس سياسياً فقط، لن يجد السياسي والحاكم مهما كان، أي طريق نحو الاستبداد بالرأي والقرار، فهو بحاجة الى أرضية تساعده على الوقوف كمستبد وديكتاتور واكتساب الشرعية الجماهيرية والاستمرار في حكمه، كما حصل مع تجربة صدام في العراق، وهذا ما اشار اليه سماحة الامام السيد محمد الشيرازي في كتابه "الشورى في الاسلام" بان "المشكلة ليست فقط في الحاكم المستبد والمتزلفين حوله الذين ينالون من ماله وجاهه، بل المشكلة الأهم في الرحم التي تولد هذا الحاكم، وهي الامة،وهل الحاكم وجماعته المعدودون يتمكنون من السيطرة على الملايين، فاذا صارت الامة كالجسم الضعيف، تلسلط عليه المرض، بينما الاقوياء لهم المناعة في طرده عن اجسادهم".
وإذن؛ فان مهمة المثقف والمفكر محاربة الاستبداد كثقافة وسلوك في النفوس، حتى لا يكون الانسان مستعداً لتقبّل فكرة الاستبداد من جهة اخرى أعلى منه واكثر منه قوة، وقبل هذا وذاك، على هذه الشريحة ان تبدأ من نفسها في تقبل النقد والفكر الآخر قبل إصدار الاحكام على الآخرين واتهامهم بالاستبداد، فاتهام كهذا يخفي وجود حالة مشابهة في نفس المتحدث، وإلا فان إشاعة ثقافة الحوار وتبادل الآراء واحترام الآخر، هي بحد ذاتها تكشف عن هوية المستبد برأيه والمخالف للرأي العام، وهذا ما تحبذه الجماهير دائماً، فهي تتجه نحو من يعمل بصدق وإخلاص اكثر ممن ينظّر ويتحدث كما لو انه يمثل الحق المطلق.
اضف تعليق