روي أن الاسكندر ذي القرنين وفي فتوحاته الكونية دخل مدينة عجيبة لم يجد فيها جندا ولا دركا، أي شرطة، ولم يجد فيها قاض ولا ملك، فاستقبله اهل القرية وهم يعجبون لجنده وسلاحه بل لعلهم أكثر منه عجبا، فسألهم عن الملك والقاضي والجند والدرك فأجابوه وما الحاجة اليهم قال الأمن قالوا بعضنا يأمن بعضا، ويبدو من الرواية أنها من قرى البدائيين أو من قرى المؤمنين الخالصين، والرواية تميل الى عدهم من المؤمنين لكنها لا تذكر شيئا عن دينهم ونبيهم، وهي عظة على طريق أهل الإيمان أو على طريقة القدامى من أهل الاديان بأمان الدنيا بإيمان النفوس وأمن بعضها الى بعض فأغنت عن الملك والقاضي والجند.
وترمز تلك الرواية الى أسطرة القيمة العليا للحياة عبر إلغاء دور الملك والقاضي والجند، وهي تحفل بالمعنى الذي يرسخه الايمان الديني بالحياة، والعجائبية تبدو واضحة في حبك الرواية والأسطورة جلية في حكايتها أو في حكيها، لكن اذا تجاوزنا الحكاية في نفيها التاريخي وهو ما يشكل حكم أسطوريتها الى المعنى الحافل في أسطرتها في تمجيد السلام الذي يستمد مجده أو موضوعه من تمجيد موضوع الحياة، فإننا نعيد صياغة الفهم الديني لكثير من الحكايات الدينية التي تصنف ضمن اللامعقول والاسطورة والخرافة، ونعيد تشكيل الاسطرة كاستخلاص للاسطورة في المعنى منها ومحور تسويغ الخلاصة منها عبر إزاحة الشكل الاسطوري لكثير من المرويات الدينية لحساب المضمون المؤسطر لها، والأعم أو الاهم من ذلك هو قدرتنا على ملامسة المعنى العميق في النص الديني والممتليء بالدلالات الحاملة للقدرة على النفاذ الى أعماق عالمنا الشخصي الذي نتصور الوجود من خلال بنائه وقناعاته.
ان التوقف عند حدود الحكاية في اللفظ والسطح في الرواية تكسب ذلك البعد الخرافي في الاسطورة، لكن تجاوز اللفظ الى المعنى وتجاوز السطح الى العمق يحيل الى عقلانية الفهم لما تتضمنه تلك الروايات الدينية التي يحفل بها تراث الاسلام الديني والثقافي، ويظل تبرير البعض في عد هذه الرواية أسطورة لأنها خارج التاريخ مما يسوغ أسطرتها لكن تظل الرواية الشفوية قبل التاريخ تستند الى أسلوب واشكال الاسطورة في التعبير عن المعنى الذي تؤمن به بل وتروج له، والتاريخ هنا بمعنى التدوين المستند الى أنظمة السنين، لاسيما وأن هناك من يرى أن مصطلح التاريخ مشتق من أرخ بمعنى القمر في لغات قديمة، ويستند الزمن الى القمر في تقويمه وشهوره وسنينه لدى أمم الشرق، وفيها بدأ التاريخ موضوعا ومن ثم علما، لكن الامم السالفة أو الاقدم من الامم المؤرخة والمدونة لتاريخها كانت تعمد الى النجوم في رسم خرائط العيش والحركة ولذا نما فيهم علم التنجيم وازدهر، بل وكان المؤسس لكل العلوم اللاحقة وكلها لاحقة له، وفي تلك المجتمعات نمت أو تكونت الاسطورة في أساليب آدابها ووسائل التعبير لديها فقد كانت النجوم تدخل في تفسير الحياة واستقراء مستقبل الافراد والملوك والدول.
وتكشف مناظرة النبي ابراهيم مع قومه عن سبق اتخاذ النجوم آلهة ومرجعا في تفسير المعنى في الوجود قبل القمر ومن ثم الشمس، وهي تؤشر انتقالات الوعي البشري في تفسيره الخاص لوجوده، ولأن النجوم تشتبك في رسم كوني وتتداخل في صياغة أشكال علوية وطريقة انتثارها في السماء وتتلألأ أنوارها الذي يحيل السماء الى عالم يضفي الاحساس الداخلي للانسان عليه صورا من الحياة تجعل تلك السماء في الليل آيات ناطقة بالمعنى ودليل في الوجود الكوني، انها لا تكتفي بالدلالة في الارض بل تضرب بعيدا في أعماق دلالة الوجود "وعلامات وبالنجم هم يهتدون"، وهي تبعث ذلك العنصر النفسي المؤسس للأساطير في العالم القديم، فالأساطير لا تنتمي الى أكاذيب تاريخية أو حكايات مختلقة لدى الشعوب القديمة بقدر ما تعبر عن الاثار النفسية المترتبة عن القناعات الوجودية المترتبة عن الدلالات الباهرة المكتسبة عن إيحاءات النجوم في الوجود، حتى لقد عظّمها اقوام فسجدوا لها واتخذوها أربابا في لحظة توقفت بها الدلالة عند سطوح الوجود دون أعماقه.
وهنا تبدو الاساطير تفقد دلالاتها في شروح الوثنية وتتحول الى الخرافة، وفيها تحيل عملية التواصل الوجودي الى مجموعة من الطقوس والاجراءات الكهنوتية التي تقيد فكر ووعي الانسان عن النفاذ الى أعماق الوجود والبحث عن السر الكامن خلف هذا البناء الكوني، ولذلك كانت الحروب في هذه المجتمعات القديمة والقساوة في تدمير الحياة التي جبلت عليها هذه المجتمعات جزء من ذلك التوقف الذي أصاب العقل الوثني في ادراك أعماق الوجود الذي يختزن سر الحياة، و في جماد الحجر الآلهة توقف فأس العقل في التنقيب عن كنز الحياة بل جهل أخيرا وجود هذا الكنز فقال "ان هي الا حياتنا الدنيا".
ومن أجل إدامة الحياة في الدنيا ابتكر العقل الوثني جدليته المتناقضة في طقوس الموت ومنها طقوس القرابين البشرية التي تجدد الآلهة بها حياتها ويستشعر الوثني رضاها فتدفع عنه شرها ويتمكن من ابقاء حياته آمنة من غضب الآلهة، وتعتقد المجتمعات البدائية بحلول قوى الجسد المضحى به في الجسد المضحى له في طقس اكل لحوم البشر مما تؤمّن له امكانية حياة مستمرة، وتفسر الطوطمية بانها محاولة الى العود الى أصول الحياة في العقل البدائي ولذاك تحرم تلك المجتمعات أكل الحيوان/الطوطم لانها تسيء الى حياتها ان فعلت ذلك، لكنها تستبيح أكل لحوم البشر لان افق الحياة ضيق لديها فهو مقصور عليها وعلى طوطمها، وذبح الموؤدة لدى الوثنيين العرب قبل الاسلام تدخل في تضمينات اللاوعي الوثني والمتناقضة محاولة في دفع الاملاق الذي يهدد حياة الوثني في صحرائه القاحلة.
هكذا اذا يصنع التوقف عند سطوح المعنى في الوجود الذي تلهم النجوم دلالته القصوى وتتكون الخرافة، وهو ما يصنعه الفكر الديني المتطرف في طريقته الحَرفية والحِرَفية في معاملة النص الديني في توقفه عند سطوح النص ولا أقول ظاهره لان ظاهر النص الديني يغتني بالدلالات العميقة فضلا عن باطن النص ذي الغنى الوجودي والنفسي وفي السطوح الني تكونها سطحية العقل الديني المتشدد والمتطرف، وهنا نكتة جديرة بالتوقف فأن تطرفه نابع من توقفه على اطراف المعنى في النص الديني دون ولوجه بالكامل بعد ان يفتقد أدوات العلم الديني لاسيما علم التفسير وطرائق الاجتهاد في الاستنباط فينتج الخرافة ويكرر أو يمرر أكاذيب الرواة، فيعود العقل الوثني ولعله بوعي منتجا له من جديد في ابتكار طرائق الموت من الذبح الذي تحول في هذا الفكر الى طقس يمر عبر أدوات الوصول الى إلغاء الحياة، الى الحرق الذي يكرر به فعل الكنيسة القروأوسطية حين عادت بفعلها هذا الى الوثنية الرومانية، الى تفخيخ الاجساد الذي يستحضر المفهوم الوثني للقرابين البشرية أو بصورة أكثر دقة الى الدماء التي تسفك على مذابح الآلهة من البشر الذين يقبض عليهم لإشباع نهم آلهتهم الى الدماء، لقد شاهدت في فلم وثائقي كيف يحتفل البدائيون في أفريقيا في طقس ذبح بشر قبض عليه في دائرة حول زعيمهم وهو يخرج قلب هذا الضحية بعد شق صدره وهو حي ويدور بهذا القلب ليلتهمه وهو يطابق ما فعله ارهابي سوري بإخراج قلب مواطن سوري ليأكله على مشهد من العالم كله.
اذا هكذا يتطابق السلوك في لحظات التوقف عند سطوح المعنى في الوجود في العقل الوثني ويتوقف عند سطوح المعنى في النص الديني، وبالقدر الذي لا يشتغل فيه العقل الوثني خلف سطوح الوجود ويتوقف عند النجوم بطرائق التنجيم وقراءة البروج، وهو ما يفعله الفكر الديني المتطرف في توقفه عند حدود المعرفة الكلامية والفقهية الدينية السطحية، ويتوقف في حدود الزمن الماضي عند قداسة الصحابة والسلف الخاص به والمنتقى بمزاجية المؤسسة الرسمية وتكفل بها البيان القادري العباسي، ولذلك ظل هذا العقل السلفي يحظى بإجابات زائفة على طول مساره الديني و التاريخي، وقد تسبب بالفوضى الحاصلة في عالمنا الحديث كما تسبب العقل الوثني بالفوضى الحاصلة في العالم القديم، وهو ما يشكل القاسم المشترك بين العقل الديني المتطرف الحاضر وبصيغته السلفية وبين العقل الوثني الغابر.
اضف تعليق