يهيمن الغموض على جوهر العولمة الغربية، فما يُرى منها على المستوى الثقافي غير ما يُخفى وهو أعظم، وكل مفهوم أو مجسَّد فكري أو معنوي يثير الالتباس يكون محط توجّس واستغراب العقل، لكن في الحصيلة النهائية، يقرّ العلماء في تفسيرهم للعولمة بقولهم أنها (تمثل المشروع الغربي الحامل للمشروع الأيديولوجي للّيبرالية الجديدة) بحسب رؤية للإمام الشيرازي في كتابه (الفقه: العولمة)، وهو يختصر تساؤلات شتى كلها تُثار حول ماهيّة الثقافة الغربية والنوايا الخفية لها، وإن بدت مرتكزة على مشروع أيدلوجي ليبرالي واضح المعالم.
هناك من يثبَّتْ ثقافة الاختراق للثقافات الأخرى فيما تقوم به عولمة الغرب من تحريك وتحريف لعقول الآخرين، بالأخص الشباب منهم، والحاصل كنتيجة من هيمنة الاختراق الثقافي، هو ضمور الثقافات الأخرى، وقد يصل بها الحال الى درجة الذوبان، وهذا هو المطلوب، فحين تذوب ثقافة ما في ثقافة أكبر وأكثر تأثيرا، يعني هذا محوا للخصوصية والهوية والاستقلال الفكري والثقافي والاجتماعي، وهي عملية إلغاء قاطعة للآخر.
لذلك لا يمكن الجزم بأن مظهر العولمة الغربية يمنح الباحث مضمونا متكاملا يفصح عن أفكارها أو أيدلوجيتها، لكن الهدف يبقى يكمن في تحفيز المشروع الليبرالي القائم على مبادئ غربية طالما ترددت في أوساط الساسة، مثل حركة التجارة الحرة، وانتقال الأموال بلا موانع، وهذا ما تصدت له العولمة ونجحت في غرسه على صعيد العالم.
نقرأ كهذا الاستنتاج في رأي للإمام الشيرازي: (إن جوهر العولمة الغربية، لا يكمن في مظهرها، بقدر ما هو كامن في مضمونها، فإنها تمثل المشروع الغربي الحامل للمشروع الأيديولوجي للّيبرالية الجديدة التي ترتكز على قوانين حرية السوق والحرية المطلقة لانتقال البضائع والأموال والأشخاص والمعلومات والثقافة عبر الحدود/ المصدر كتاب الإمام الشيرازي، الفقه: العولمة).
بدت الآن الصورة واضحة، لا تحتاج الى إبراز أو تركيز، فما قاله المفكر العالِم السيد الإمام الشيرازي قبل عقود، بدأ يتجسَّد واقعا، حيث العولمة في أصلها ليست تجارة ولا نظرية في الاقتصاد كما يروِّج لذلك مفكرون يقفون وراء المشروع العولمي الغربي، إنها في حقيقة الأمر تجسيد فعلي لمشروع ثقافي فكري أيدلوجي، يركز في مسعاه نحو سيطرة الثقافة الغربية على ثقافات العالم كله، ومن بينها ثقافة المسلمين والعرب، وقد وضعت العولمة كل قدراتها الهائلة على طريق الاختراق الثقافي الذي بات سلاحا فكريا أكثر تدميرا حتى من القوى المادية، والنتيجة أن سطوة المادة سحبت البساط من تحت الثقافة، وأصبح إنسان العصر خاصتنا ساهيا لاهيا بما تقدمه له العولمة من هرج ومرج في الصورة والصوت والملبس و(النماذج) الغرائبية، كملهاة لا يحيد عنها العقل المؤثث بثقافة الاختراق.
فكما يبان للمتتبع أن (العولمة الثقافية تهدف إلى السيطرة الغربية على سائر ثقافات العالم، مستفيدة من وسائل الاتصال والتكنولوجيا المتقدمة التي تنشر بواسطة ما تملكه من إمبراطوريات إعلامية واسعة، ثقافة السوق والاستهلاك بواسطة الصوت والصورة على حساب القراءة والكتاب/ المصدر السابق).
بالنتيجة نحن نقف اليوم عند حافة الاختراق الثقافي، ونعاني من وطأتها وهيمنتها، فكل شيء في حياتنا مطرّز بدقائق هذه الثقافة وتفاصيلها، من أصغر الأشياء وأدقها الى أكبرها، مما نرى ونحتاج لكي تمضي حياتنا قُدُماً، فنحن صرنا نعتمد على عولمة الغرب، ومحركاتها الثقافية التي لا تكف عن الهيمنة وفرض الرأي والنموذج الثقافي تحت سلطة الإبهار، فالمزيج المتداخل بين ثقافة الغرب واستعداد العولمة لنشر هذه الثقافة في جميع أنحاء العالم، تجعل جميع الثقافات الأخرى تعاني من سلطة الاختراق الثقافي، وبالتالي الركون الى الموافقة تحت الضغوط المادية والفكرية، فتذوب الثقافة الأم، وتتدهور الهوية، وينسلخ الإنسان وينهزم أمام الاختراق الثقافي الغربي القادم بعجلات العولمة التي تدهس كل من يعترض طريقها رافضا أو معيقا أو متسائلا عن حرية الفكر والثقافة وتلك المبادئ التي تتشدق بها الليبرالية الغربية، فهي قد وضعت كل إمكانياتها في خدمة الاختراق الثقافي وصولا الى تحقيق التبعية (الحضارية) للعولمة.
شيء مما تقدم نقرأه في هذا المدلول المنتخَب من كتاب الفقه: العولمة (إن العولمة الثقافية الغربية بوصفها أيديولوجية تعكس إرادة الهيمنة على العالم، وتمثل ثقافة الاختراق، بمعنى التطبيع مع الهيمنة وإشاعة الاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري الذي يشكل الهدف الأول والأخير للعولمة الثقافية/ الإمام الشيرازي).
ومن ألاعيب العولمة أنها ذهبت الى موت الـ أيدلوجيا، في حركة مفبركة تشي بما مخطط له من دوائر التخطيط المخضرمة، فالمستهدَف هو رأس (الهوية الجماعية) لثقافات الأمم الأخرى، لتسود ثقافة واحدة، تضع تحت مظلتها كل الثقافات الأخرى في العالم، والمنجز المرتقَب هو انتعاش الثقافة الغربية كنموذج عالمي أوحد، وبالتالي إنتاج هيمنة مطلقة على أمم العالم أجمع بعد اختراقها ثقافيا ومن ثم تدميرها أو إضعافها في أقل التقديرات، ولنا أن نتصور أو نتخيل أمم بلا ثقافاتها، وكيانات بشرية لا هوية لها، وشعوب كاملة هجينة تعاني من ضياع الأصول وتفتيت الخصوصية وتدمير الذات وزرع حالة الاغتراب في جميع الأمم كبديل عن فراغ الهوية الثقافية بعد اختراقها وتذويبها وتفتيتها.
في هذا الاتجاه تحركت الدوائر والقوى المهيمنة على رأس المال العالمي، أوحت بموت الـ أيدلوجيا، وقدمت العولمة كبديل لملء الفراغ، بعد أن قامت الأخيرة بدورها على أكمل وجه، فسحقت الثقافات طرّأ، واخترقتها شر اختراق، واستهدفت هويتها، لكن هذه اللعبة باتت مكشوفة لأمم وشعوب العالم، ومع الحاجة العالمية القصوى لوسائل العولمة، بدأت موجات كبرى من التفكير المنهجي يحث الثقافات الأخرى بإرثها الفكري التراكمي الخاص كي تواجه ما يحدث بخصوص الاختراق، فأخذ العديد من الأمم يفهم اللعبة وبدأ بعضها يستفيق ويواجه ذلك بوسائل متعددة، وقد وعى الجميع تقريبا، حتى أولئك الضعفاء من نسل البشرية بأن (العولمة تهدف الى إفراغ الهوية الجماعية من محتواها وتدفع إلى التفتيت والتشتيت من جهة، إضافة لزعمها موت الأيديولوجيات كما تؤكد وتسوّغ هذا الشكل الجديد من السيطرة والهيمنة من جهة أخرى/ المصدر السابق).
اضف تعليق