هل يعاني المال العام في العراق من محنة حقيقية، أم أنها موجات إعلامية يسوقها مغرضون من أجل خلق أجواء سياسية معينة في العراق؟، هكذا سؤال يتم طرحه بشكل دائم، ويبقى الجواب حكرا على الواقع وحده، فهو الذي يقدم الأدلة والشواهد على صحة هذا القول من عدمه!.
ولعلنا تابعنا قبل أيام عبر وسائل الإعلام المختلفة ومن بينها شبكات التواصل الاجتماعي، عدة أخبار (واقعية) تؤكد أن المال العام عرضة للنهب المنظم، وغالبا ما يتورط في ذلك بعض العاملين في مجال السياسة وإدارة السلطة، وليس بعيدا ما تحدثت به وسائل الإعلام عن محافظ البصرة، أو محافظ الأنبار، أو مدير الخطوط الجوية.. وهذه أمثلة ساخنة من بين ما لا يعد ولا يحصى من الأدلة، فهل العراقيون أو الإعلام يفتري على المسؤولين ويتهمهم جزافا أم أن الواقع هو الذي يقدم إثباتات كافية عن هذه الظاهرة؟.
حين نذهب الى الإجابة فلا مهرب من القول أن معظم المواطنين في العراق يشكون من الفساد والسرقات العلنية والخفية التي تطال ثرواتهم ومواردهم وأموالهم النقدية، ويمكن أن نسمع هذه الشكاوى والتذمر المتزايد من بسطاء الناس، يطلقونها في الأسواق أو سيارات النقل أو المقاهي وسواها، ومعظم الشكاوى تدور عن السرقات التي يقوم بها مسؤولون وموظفون في الدولة، من دون أن يتعرضوا للعقاب أو المحاسبة العادلة، لأن عمليات السطو على المال العام تتم تحت غطاء قانوني مفبرك، أو تتم بالتوافق والصفقات المشبوهة المتبادلة، في حين يُعلًن بين حين وآخر في وسائل الإعلام المختلفة –من باب ذر الرماد في العيون- القبض على الموظف الفلاني متلبسا بسرقة كذا مئة دولار، أو مرتشيا بكذا مبلغ تافه وصغير قياسا بالملايين والمليارات التي تُسرق بحيل وألاعيب كثيرة وصفقات مشبوهة، تُبعد مرتكبيها عن الملاحقة والقصاص.
ضمور القيم الأخلاقية
وما يزيد الطين بلّة أن هذه الظاهرة لا تقف عند حدود الأذى المادي، بل أنها باتت تعيث فسادا بمنظومة القيم التي تنظم العلاقات الاجتماعية وحركة المجتمع والعلاقات المتنوعة في مؤسسات الدولة، ومن غرائب الأمور أن عمليات السطو على المال العام باتت ظاهرة متداولة بين الجميع، وربما تحوَّلت الى إحدى القيم المجتمعية المألوفة، حيث يعدّها بعضهم، لاسيما كبار الموظفين، شطارة أو فرصة حق لتكوين الحاضر والمستقبل للمسؤول المتجاوِز، لأن المنصب قد يزول لسبب أو آخر، ولهذا يبذل هذا المسؤول أو ذاك قصارى جهده وشطارته لكي يحقق ما يبتغي من منافع وموارد، في مدة قياسية، بغض النظر عمّا ستلحقه تجاوزاته وسرقاته من أذى بيّن في شرائح الشعب المختلفة، لاسيما الفقراء والأرامل والأيتام.
ومن المؤسف حقا أن هذه الأوضاع وحالات الاختلاس او الرشا لم تتم معالجتها بالجدية المطلوبة، لذلك راح يتزايد هذا الوضع الخطير في ظل ضمور متواصل للقيم الروحية والأخلاقية، مع تنام مخيف للمادية، حيث تزدهر حالة تسابق غير معهودة بين الجميع من اجل الحصول على أكبر الموارد وأكثرها، بغض النظر عن طريقة تحقيقها، طالما أن الأغطية القانونية وربما الشرعية أيضا، متوافرة ويمكن ابتكارها والاستفادة منها لتحقيق سرقات علنية او خفية للمال العام، قد يبدو مثل هذا الكلام ذا طبيعة فضفاضة، ولكن يمكن للمراقب والمتابع أن يكتشف نماذج كثيرة للسرقات المقنّعة، تشبه في أضرارها ومخاطرها البطالة المقنّعة، إن لم تتفوق عليها، أحد هذه النماذج على سبيل المثال، هناك موظف شاب، أنهى دراسته وحصل على البكلوريوس، كان فقير الحال، رث الملابس، حصل على تعيين في إحدى الدوائر الخدمية، وفي غضون سنتين او أكثر قليلا، بنى دارا سكنية واقتنى سيارة حديثة وتزوّج من فتاة متعلمة، نحن نتمنى أن يحصل كل الشباب على مستلزمات الحياة الكريمة، وهذا واجب الحكومة تجاههم، ولكن يجب أن يتم ذلك بالطرق السليمة، وليس بطريقة الشطارة المستحدثة في استغلال الوظيفة، فإذا كان موظفا شابا صغيرا يستطيع أن يحقق المنافع التي ذكرتها في غضون مدة زمنية قليلة جدا، ماذا يفعل الموظفون الكبار من لصوص المال العام إذا؟؟، ولعل مثل هذه الاستنتاجات المؤلمة تجعل الجميع في حيرة من أمرهم، والكل يتساءلون متى يتم القضاء على الفساد الذي بات يحرق الأخضر واليابس ويلحق الأذى بالفقراء بلا رحمة؟.
الشماعة جاهزة لتعليق التجاوزات
إن ما لا يمكن نكرانه، أو تغطيته، أو غض الطرف عنه، هو ازدياد هذه الظاهرة أمام عيون المعنيين، فهناك لصوص يحسنون التعامل مع سرقة المال العام، وفي المقابل هناك من يغض الطرف ويتغاضى عنهم مقابل فوائد محسوبة، ومعظمها متبادلة، هذه الحالة تشبه تماما نظام الفوائد المتبادلة للصفقات الفاسدة، السائد في دول معروفة من العالم، حيث يُعتمد أسلوب التوريط لكي تكبر قاعدته الى أقصى حد ممكن، حتى يتحول هذا النوع من السرقة الى ظاهرة متداولة لا تثير الاستهجان أو الرفض أو الاستغراب، لكن الأخطر من السرقة نفسها، هو ضعف الجانب الأخلاقي والروحي لدى النسيج المجتمعي المتباين، مقابل تصاعد في النزعة المادية التي تلهب الصراع والتسابق نحو ارتكاب جرائم السرقة والانحراف، بمعنى أن الخشية لا تكمن في الخراب الذي يطول اقتصاد الدولة ومؤسساتها، وما يتم هدره من أموال المخصصة للمشاريع التربوية او الاقتصادية أو الخيرية والخدمية، فضلا عن تدمير ثروات الشعب، بل هناك خراب أخطر هو الذي يطول النفوس فيجعل من الإنسان وحشا بدلا من أن يكون إنسانا.
وعندما يظهر المسؤول الفلاني فإنه يقلل من أهمية هذه الظاهرة، ويعلل ويبرر وهناك ولديه ألف شماعة جاهزة لتعليق التجاوزات، بل بعضهم يقول هنالك مبالغات في حجم الفساد، أما ما يعرضه الواقع لنا وما يقدمه من أدلة دامغة فإن ذلك لا يعنيهم من بعيد أو قريب، وغالبا ما يحرص المسؤولون على التقليل من أهمية هذه الظاهرة، والسبب جلي وواضح للجميع، لأنهم هم المسؤولون عن ارتكابها، حتى لو بصورة غير مباشرة، أي أنهم بالنتيجة سوف يوضعون في الواجهة الأمامية للحساب، لذلك نلاحظ عدم المحاسبة الجادة لإيقاف نزيف هدر المال العام.
أحيانا ترتفع أصوات رسمية هنا وهناك تطالب بإيجاد حلول حاسمة لهذه الظاهرة، لكن في الواقع لا توجد علاقة للتشارك والتعدد الديمقراطي، في صنع القرار لردع هذه الظاهرة وتقليل آثارها ثم القضاء عليها، إذ يتذرع الكل بصعوبة الحزم في معالجة ظواهر الفساد والسرقات، بسبب غياب المركزية في اتخاذ القرار وما شابه، لتعدد الكتل والأحزاب التي تستند الى تعدد مكونات المجتمع، ولكن مجتمعنا ليس وحده من يتميز بالتعدد العرقي والديني والأثني، فهناك مجتمعات تفوقنا تعددا وتنوعا، لكنها تفوقنا تطورا أيضا، وهي أمم وشعوب منضبطة، لا تسمح لنفسها ولا لأي مسؤول كان بتعريض المال العام الى التبذير أو الإهدار أيا كانت الأسباب، لأنها أمم وشعوب لا تقبل التجاوز على حقوقها.
اضف تعليق