q

من أنصع العلامات والشواهد عن غباء الدكتاتوريات، ظاهرة الخشية والتخوّف من الفكر الآخر، أو ما يمكن أن نطلق عليه بـ (فوبيا الفكر)، وهي ظاهرة فكرية سياسية عانى منها المتسلطون على رقاب الأمم بالقوة وليس بالانتخاب، وسيبقى هؤلاء البغاة يعانون من هذه الفوبيا إلا في حالة الوصول الى العرش عبر الشرعية التي يمنحها الشعب للحكام، بغير هذه الطريقة سيبقى الخوف من الفكر أو (فوبيا الفكر) تقض مضاجع السلطة المزيّفة، والمعني بها تلك التي استولت على زمام القيادة بأساليب القوة والخداع والتضليل والتزوير.

معروف عن الدكتاتوريات محاولاتها المكررة أو استماتتها في عزل الأمة التي يحكمونها عن الأمم الأخرى، فيجهدون أنفسهم وأدمغتهم وخبرات خبرائهم ومعاونهم، بحثا عن أنجع الأساليب والطرق التي يمكنها عزل الأمة عن العالم الخارجي ومنها من بلوغ الأفكار والثقافات، حتى لو تم ذلك عن طريق حشرها في زنزانة مغلقة النوافذ والأبواب الى الأبد، أما الأسباب التي تدفع الى ذلك فهي كثيرة منها على سبيل المثال وليس الحصر:

- منع التفكير الحر عن عقول الأمة المبتلاة بالاستبداد.

- مسخ شخصية الفرد وجعله ضعيفا مهزوزا ليس له موقف من الظلم.

- تعويد الناس على أقل سقف من الحقوق، وحصر ذلك بما يسد الرمق لا أكثر.

- حرية التفكير تعني انقلاب الموازين ضد الحاكم لصالح الأمة.

- الاستعانة بالخبراء من علماء النفس لشن حرب نفسية متواصلة ضد الأمة.

- الهدف الأول والأخير من محاصرة الفكر الحر وعزل الأمة هو حماية الكرسي.

هكذا هي التجارب الدكتاتورية عبر التاريخ في كل بقاع الأرض، ما قامت دولة عسكرية فردية مستبدة، إلا وكان الفكر والثقافة والوعي أعداها اللدودين، حيث يُصاب الحاكم المستبد بـ (فوبيا الفكر)، وتنتقل عدوى هذا الخوف الى كل مفاصل الحكومة وكل البطانة ومجموعة المعاونين، فهؤلاء جميعا يرتعشون فرَقاً من الرأي الجريء الصادق، ومن الفكر البناء، ومن حرية التعبير، ومن وسائل الإعلام المستقلة، لهذا يضع الحكام المستبدون كل خبراتهم وقدراتهم للتصدي للفكر المتحرر، فتتم ملاحقة ومطاردة العلماء الأحرار، منهم من يُعدم أو يشرَّد أو يُنفى وكثير منهم يتعرض للتصفية والاغتيال لمجرد أنه يفكر بحرية، ويطرح رأيه الآخر على الملأ بما لا يتوافق وفكر الحاكم المستبد، هنا تشتعل فوبيا الفكر، وترتعش فرائص النظام كله، لتبدأ دورة جديد من النظام الرقابي الحديدي ضد الرأي الحر والفكر البنّاء.

يعرف الطاغية أن الفكر عدوه اللدود، تلازمه الفوبيا ليل نهار، تقض مضجعه، تتراءى له في حلم اليقظة، يعيش كوابيس فقدان العرش، فيقوم هو ومعاونوه وكل من ينتمي الى نظامه السياسي باتخاذ أقصى وأشد الإجراءات فتكاً بالخصوم، ونعني بهم أفراد الأمة والعلماء وقادة الفكر منهم على وجه الخصوص، والغريب في الأمر أن الطاغية لا يخطر في باله الزوال، فهو يطمح أن يمتد حكمه الى أولاده وأحفاده كما حصل في عصور الحكم العربي الذي غيّر سنن الحكم النبوي، فصارت السلطة توريثا، وراح الحكم ينتقل بطريقة آلية من الأب للابن كما في الحكومات الأموية والعباسية، تلك الأنظمة عاشت جميعها فوبيا الفكر وتحرَّزت منه بكل الإجراءات الرقابية القاسية، لكنها بالنتيجة ذهبت الى الحضيض.

في بعض الأنظمة الحديثة أي في عصرنا الراهن، عزلت شعوبها، فحرمتها من أي اتصال خارجي، ومنعت بث القنوات الفضائية إلا قناة الحكومة، ورفضت صدور أي جريدة أو مطبوع ورقي لا يؤيد أو يحابي النظام، لا إنترنيت، ولا أجهزة نقل الصورة (الستلايت) ولا الجهاز النقال، الشعب كله محجور عليه في زنزانة الحاكم المصاب بفوبيا الفكر، كل هذا وسواه حصل ولا يزال يحصل حتى لا يتسرب الفكر الحر الى العقول فتثور الإرادات وتُسقط العروش من عليائها وسموّها الكاذب.

رأت الأنظمة الأحادية العربية بأم عينها كيف تساقطت تجارب دكتاتورية في أفريقيا وآسيا، مثل نظام عيدي أمين في أوغندا، وهيلاسي لاسي في أثيوبيا ونظام نيروبي وكذلك دكتاتوريات أمريكا اللاتينية، ضاعف ذلك من هلعها والتصقت بهم فوبيا الفكر مثل الظل الذي لا يقارق صاحبه قط، الغريب لم يخطر أن فكّر الحاكم الفردي بتغيير منهجه والانفتاح على الآخر وفك عزلة الأمة، مع أن هذا الإجراء لا ينقذ الأمة وحدها ويعيد كرامتها المستباحة لها فحسب، وإنما ينقذ الحاكم ونظامه من هلاك محتوم.

فسبيل الخلاص من فوبيا الفكر، يكمن في الانتقال من الاستبداد الى الحريات حتى لو تم ذلك بشكل تدريجي، وهذا هو السبيل الوحيد الى فك رقبة النظام المستبد من النهاية المحتومة، وفي متابعتنا واطلاعنا على جميع الدكتاتوريات، فإننا سنلاحظ أنها إما تنتهي بقتل الحاكم وذويه ومعاونيه، أو تقديمه للمحاكم الشعبية والانتهاء بالقتل أيضا، لم ينجو دكتاتور قط إلا ما ندر، كما حدث مع الرئيس التونسي الأسبق الذي فرّ الى السعودية تاركا بلاده تخوض في وقتها ببحر من الدم والمشاكل، فيما كان الأجدر أن لا يعتمد هؤلاء الفرديون سياسة الخوف من الفكر البناء ولا يعزلوا شعوبهم عن العالم، لكانت النتائج قد تغيّرت بسلاسة، مع الانفتاح الفكري المتدرج ومعالجة الخوف من العقول الواعية.

إنه درس لحكام الحاضر، وللأنظمة السياسية التي تخشى الفكر وتعتمد العزل والتجهيل، وإثارة الضغائن بين مكونات الأمة وطوائفها لكي يخلو لهم الجو لترتيب مصالحهم وتحصين عروشهم، إلا أن النهاية معروفة، فالعالم يتقدم الى أما ولا عودة الى الوراء مطلقا، والدكتاتوريات تندثر تباعا، وفوبيا الفكر في طريقه الى الزوال لأنه لم يعد يتواءم مع روح العصر، فما أمام الأنظمة الفردية وذات النزعة الاستبدادية وما أمام الشخصيات السياسية القيادية التي تطمح لتركيز السلطة وإعادة الأمة الى الخلف، سوى أن تعالج (فوبيا الفكر) التي تعاني منها، وذلك بالانسجام مع روح العصر، والإيمان بأن الحرية والتعدد والتعايش والاحترام هي القيم التي تحفظ حقوق الأطراف الحاكمة والمحكومة.

اضف تعليق