تتكاثر الكائنات الحية ومنها الإنسان عبر التناسل والتزوج، وبعضها بطريقة الانشطار، الذي لا يشبه الإنجاب من بعيد أو قريب، فالأخير يحدث بصورة سلسة في الغالب لا تحمل معها أضرارا أو تداعيات سيئة، أما الانشطار فالغالب أن نتائجه تفوق المتوقَّع سلباً أو إيجابا، فالانشطار النووي يسهم بتوليد قوة (تدميرية) هائلة، وهذا ما نسميه بالانشطار السلبي، وثمة أنواع كثيرة من الانشطارات منها الثقافي والسياسي وربما الفكري أو العقائدي وهكذا.
فأي حالة تنشطر الى حالات وفروع، يُطلَق عليها الانشطار، ليس بمعنى التكاثر، لأن الأخير خاضع لحالة الإنجاب تحديدا، أما الانشطار فلا علاقة له بالولادات الطبيعي، أي أنه في الغالب من صنع اليد أو الذات أو الأفكار، فالثقافة يمكن أن تنشطر الى أجزاء وربما تتناقض هذه الأجزاء مع بعضها مع أن الأصل لها واحد، وكذا بالنسبة للفكر السياسي فإنه قد ينشطر فينعكس ذلك على الواقع، وتنشطر معه الجماعة السياسية، الحزب أو الكتلة، لتتكون مجموعة أحزاب قد تكون خصما لبعضها البعض.
في الواقع العراقي كما يستشف المتابع توجد انشطارات في الثقافة العراقية، وقد انعكس ذلك على الفكر السياسي، فصارت حالة انشطار الجماعة السياسية او التحالف أو الاتحاد او المجلس الى جماعات سياسية أمر وارد جدا، وهو ما يحمله لنا الواقع السياسي الراهن في العراق، في الوقت الذي تقوم عليه الكيانات السياسية في الدول الراسخة على التقلص والاختصار، ذلك أن ظاهرة الانشطار السياسي لا تخدم الدولة ولا الشعب، ومن باب أولى أنها لا تخدم الوسط السياسي نفسه، وهذه الحالة الانشطارية دليل ضعف وليس دليل قوة.
أما لماذا تدل حالة الانشطار السياسي على ضعف الوسط العامل في السياسة، فالجواب لا يحتاج الى عناء كبير ولا ذكاء متميز، فكلما كان التكتل السياسي أكبر، كانت الخلافات أقل لسبب واضح، أن الحجم الكبير للتكتل السياسي سوف يعتمد ثقافة واحدة ذات مضامين موحدة أيضا وهذا يقلص الخلافات الى أدنى حد، في المقابل سوف تتكون كتلة أو جماعة سياسية مضادة كبيرة أيضا وسوف تتوحد تحت مظلة ثقافية فكرية واحدة، وكل من الجماعتين أو الكتلتين تواجهان بعضهما سياسيا وفكريا وثقافيا ضمن ضوابط أو قواعد اللعبة السياسية.
هذا ما يجري بالضبط في أمريكا مثالا، فالحزب الجمهوري يختصر الكثير من الخلافات الثقافية والسياسية تحت مظلته، في المقال يفعل الحزب الديمقراطي المهمة نفسها، ثم يتبارى الحزبان كل أربع سنوات في انتخابات يطلع عليها العالم أجمع وهي في الغالب تكون شفافة والحزب الذي يغلب يتم الاعتراف له بالغلبة والخاسر يعترف بهزيمته ويبارك الفائز لتذوب الخلافات وينصاع الجميع تحت مظلة الدستور.
لم تشهد الدول الكبرى ولا المتقدمة على وجه العموم انشطارا سياسيا ولا حتى ثقافيا، فالتقارب والتناغم السياسي غالبا ما يكون نتاجا لتناغم ثقافي، أما عندما نلقي نظرة دقيقة على الواقع في العراق فإننا سنلاحظ العجب، إذ يقول المراقبون والمختصون، أنه من المحال أن تحكم الوسط السياسي مقاسات يمكن أن تعتمد لمعرفة طبيعة النشاط السياسي، ويذهب ثلة منهم الى أن الثقافة المنشطرة على نفسها تُسهم في تأثيث المشهد السياسي وتعيد تشكيله، ذلك أن ثقافة الناشط في السياسة تظهر في قراراته ومشاركاته في صنع القرار أو سواه.
هل هي ظاهرة جيدة، وهل ما يحدث اليوم في ميدان السياسة يغني التجربة العراقية، أم هنالك حالات من التراجع والنكوص تعتري ما يحدث في هذا الحقل؟، وهل بالفعل هنالك انعكاس ثقافي على السياسة في العراق؟، يجيب بعض المعنيين أن ظاهرة الانشطار السياسي لا تبشر بخير، فهي دليل واضح على التصدع في الرؤية السياسية وهي دليل على تراجع ملحوظ في الإطار الاستراتيجي، كما أن الرؤية الثقافية لم تقدم ما عليها من دور موجّه وداعم للعمل السياسي، وما هذا الإخفاق في بعض الأنشطة إلا دليل على سوء الانشطار وأضراره.
فهل هذا يعني أن التماسيك السياسي المتأتي من قوة الثقافة وتحضّرها بديل أفضل لما يجري الآن في الساحة السياسية العراقية؟، الجواب نعم، إذا كانت الثقافة متينة، وتأثيرها فاعل وقاطع ومؤثر في حركة المجتمع ومفاصل الدولة، فإن الفعل السياسي سوف يتوحد تحد مظلة الفكر الثقافي المتوقد، ليس المقصود بتوحد الفكر غياب التعددية الفكرية، وإنما تقليل الصراعات، وتنمية الحوار والتقارب الثقافي وانعكاس هذا الواقع على السياسة، لتقليل حالات الخلاف التي تؤدي الى حالات الانشطار غير المرغوب بها.
يؤكد المختصون أن كل حالة انشطار ثقافي أو سياسي أو أي نوع آخر من أنواع الانشطار، يعد حالة ضعف، فهو بالعودة الى ما ورد في صدر المقال، تكاثر غير مطمئن، فهو لم يأت عبر التناسل الطبيعي، ولذا يعد الانشطار غير مفيد سياسيا ولا ثقافيا، بل هو ظاهرة تثقل كاهل الدولة وتزيد من أعباء المجتمع وتشتت نقاط القوة فيه، لهذا يحذر الخبراء في السياسة والاجتماع والثقافة من تصاعد حالات الانشطار بين الأحزاب والكتل السياسية، وغالبا ما تدعى الاتحادات والمنظمات الثقافية الى أولوية وأهمية رتق حالات التهرؤ الفكري وإطلاق حملات ثقافية تضاعف من وعي الساسة كي تساعدهم على تكوين رؤية متينة تصنع حاضر العراق المتحضّر وتؤسس لمستقبل يليق بدولة تمتلك مقومات الاصطفاف الى جانب الدول المتميزة.
اضف تعليق