للنقد أو الانتقاد مذاهب وغايات تختلف باختلاف الأهداف المقصودة، وثمة أنواع من النقد كثيرة أو متعددة، وما يهمنا في هذه المقالة النقد الذي يبني ولا يهدم، ويسهم في التصحيح ولا يخرّب أو يقوّض الجهود، فالنَّقْد البَنَّاء بحسب الآراء التخصصية هو عملية تقديم آراء صحيحة ووجيهة حول عمل الآخرين، عاملين أو موظفين أو منتجين على نحو العموم، والتي تنطوي عادة على تعليقات إيجابية وسلبية ولكن بطريقة ودية وليس بطريقة فيها عناد، أو تسقيط أو بغضاء، حيث طريقة التعبير تفصح عن المآرب عادة، وفي الأعمال التعاونية، غالبًا ما يكون هذا النوع من النقد أداة قيمة للارتقاء بمعايير الأداء والمحافظة عليها.
ما تحتاجه الدولة لكي تنهض بقوة عملية تقويم (نقية) خالية من الصراعات، لذلك بسبب الإفراط في استخدام النقد السلبي الذي ينطوي على تذمر، أصبح بعض الأشخاص دفاعيين حتى عند تلقيهم نقدًا بناءً تم توجيهه بحسن نية، ومن المرجح أن يكون النقد البناء مقبولاً إذا انصب تركيز النقد على عمل أو سلوك الشخص الخاضع للنقد، وهذا يعني أنه يجب تجنب القضايا الشخصية قدر الإمكان، ويمكن أن يساعد التفكير النقدي في تحديد القضايا ذات الصلة للتركيز عليها، هذا ما يراه عدد من المختصين في مجالات التقويم الوظيفي أو المهني بصورة عامة.
وعلى وجه الخصوص يمكن للأشخاص الذين يتمتعون بالحساسية اعتماد موقف سلبي ومنهزم إذا نظروا للموقف باعتباره شخصيًا أو متغلغلاً أو دائمًا، وقد يتبنى الآخرون ردًا عدوانيًا. في المنتدى عبر الإنترنت الذي يفتقر للاتصال وجهًا لوجه، من السهل إساءة تفسير النقد البناء وغالبًا ما يخرج تبادل الآراء عبر الإنترنت عن نطاق السيطرة، لتتحول إلى حروب مشتعلة، ويمكن أن تكون مهارات التواصل بين الأشخاص مفيدة لتقييم عقلية المتلقي للنقد، أثناء السجال الأولي أو عند مواجهة الأفراد الدفاعيين، فإن النقد الفعال يدعو إلى لغة أكثر مرونة وإدراج تعليقات إيجابية، وعندما يتعاطف الشخص المنتقَد مع مجالات مثيرة للجدل مثل السياسة أو الدين، يصبح النقد غير الهجومي أمرًا صعبًا.
لذا نحن بحاجة الى التفريق بين أنواع الانتقاد، حيث تنتمي مفردة الانتقاد الى النقد والتقويم أو التصحيح، هكذا يفسرها اللغويون وغيرهم من المختصين، فهي إذاً مفردة تصطف الى الجانب الإيجابي وليس السلبي كما يظن بعضهم ممن ينظر بريبة الى التقويم، أو كما ينظر إليها أولئك الذين يتوجسون خيفة من أي انتقاد وفي أي مجال له علاقة بأشخاصهم ووظائفهم، أو يحدد المسؤولية على عاتقهم، فالمسؤول المصاب بهاجس المؤامرة ينظر الى الناقد وما يصدر عنه من تصويب أو تقويم أو نقد واضح ومحدد على أنه حالة استهداف تقف وراءها أهداف خفية تسعى لإلحاق الضرر بشخصه أو زعزعة موقعه أو محاولة لسحب البساط من تحت قدميه.
هذه الحالة بتفاصيلها الدقيقة يمكن أن نعثر عليها في مفاصل وظيفية عديدة، ويمكن العثور عليها في دوائر ومؤسسات الدولة، وربما تضاعف الى حد غير مقبول في المرحلة الراهنة بالغة الحساسية التي يمر بها العراق، فالجميع أو النسبة الأعظم من الساسة والعاملين في الاقتصاد والمال والصحة والتعليم وحتى التخطيط وفي البلديات والكهرباء وعموم الدوائر الخدمية، كل هؤلاء ينظرون الى النقد على أنه حالة غير مقبولة لأنها تمس بأشخاصهم، وتتطاول على ذواتهم وتثلم من مقامهم الاعتباري، ولا يمكن أن يخطر في بال أحد المسؤولين أن الهدف من الانتقاد هو تصحيح الأخطاء التي تحدث أثناء القيام بالعمل.
بعض آخر يذهب الى أبعد من ذلك، فيظن جازما أن أي شخص أو جهة أو منظمة توجّه له والى مؤسسته ودائرته (إذا كان رئيسا له)، أي نوع من الانتقاد او التقويم، فإن الغاية من ذلك ليس التصحيح، وإنما الإطاحة بمن يُنتقَد، وهذه في الحقيقة حساسية مفرطة تجاه الانتقاد حتى الجيد منه أو الذي يخلو من مآرب مسبقة، وبهذا فإن النقد في عرف هؤلاء ممنوع، أو هو نوع من التهجم على ذواتهم ومراكزهم، فهؤلاء يؤمنون بسياسة إما أن تكون معي أو ضدي وليس هنالك موقع آخر لمن ينتقدهم أو يسعى لتذكيرهم وتنبيههم بمواطن الضعف والزلل في أعمالهم وما يقدمونه من أعمال وظيفية من أي نوع كان.
بالطبع هنالك أسباب نفسية تقف وراء هذا الشعور، وكما يرى علماء النفس أن الإنسان الذي يعاني من عقدة الاضطهاد، ويخضع للقمع والاستبداد لفترة طويلة، فإن شخصيته تكون مهزوزة خائفة من أي رأي أو تصويب يهدف الى تطوير العمل، هنا يُنظَر الى المنتقِد أو المقوِّم على أنه مغرض وله أهداف سيئة، ولا يخطر في بال هؤلاء أن هناك عقليات ذات خبرة وكفاءة يمكنها أن تقدم النصح والسداد لمن هو بحاجة إلى ذلك، ويبقى هاجس المؤامرة هو الذي يتحكم بردود أفعال هؤلاء الذين لا يتخوفون من الآراء المضادة لنهجهم.
نعم واجه العراقيون عقودا مدججة بالقمع والقهر والإيذاء، وتم مسخ الشخصية العراقية بعد أن طُمرَت الكثير من الحقوق، وحوربتْ الأفكار التي لا تلتقي مع الفكر الأحادي للنظام السياسي، وكانت الملاحقات القانونية والأمنية وأصناف التعذيب وتدمير الوضع الاعتباري من الأسباب الأساسية التي زرعت كراهية الانتقاد في نفوس الكثيرين، مع أن الجميع يعرفون ويفهمون أن الدول العظمى والمجتمعات العملاقة وصلت الى مكانتها وموقعها عبر التقويم والانتقاد بحرية خالية من الاستهداف المبيّت، فالناقد نفسه يكون معرّضا للمقاضاة في حال أخلّ بالهدف المنتقِد، مثلما لا يجوز الحد من التقويم أو فرض الرقابة على الرأي.
في النهاية من المستحسَن أن يتخلص العاملون في الدولة او حتى في القطاع الخاص من هاجس المؤامرة، ويتعاملوا مع النقد أو الانتقاد بإيجابية عالية وبروح واثقة، على أن يجري تعزيز العلاقات المتبادلة من خلال استحداث مجالات جديدة للثقة مع تطويرها وتحديثها وتمتينها بما يزيد من الثقة بين المتنافسين، والعمل على نشر ثقافة التعاطي مع الانتقاد، وتقويض الهواجس التي تنمّي حس المؤامرة بالآخر، فمؤسسات وأجهزة الدولة لا يمكن تطويرها وتصحيح أخطاءها مالم نجعل من الانتقاد لغة متبادلة بين الجميع.
اضف تعليق