منذ أن أصدرت المرجعية الدينية الموقرة في النجف الأشرف الفتوى المعروفة بالجهاد الكفائي، دفاعا عن الأرض والمقدسات والعرض، ضد الهجمة القذرة لتنظيم داعش الإرهابي، وحتى هذه اللحظة يضفر العراقيون بانتصارات عملية كاسحة تمكنوا من خلالها استرجاع المحافظات والمدن والمناطق التي احتلها داعش، وتم طرد الإرهابيين منها، ولعل النصر الكاسح الذي يعيشه العراقيون هذه الأيام في مدينة الموصل، يمثل ذروة العمليات القتالية التي بدأت بتشكيل الحشد الشعبي والبدء بقتال داعش على حدود المدن المقدسة ومنها كربلاء والكاظمية، بعد أن احتل التنظيم الإرهابي محافظات الموصل وصلاح الدين والأنبار ومساحات واسعة من محافظة ديالى وكركوك.
واليوم ينتصر العراقيون في الموصل في القتال المشرف الذي حمى العراق ومقدساته من قذارة ونجاسة الفكر التكفيري الأهوج، ما يجعلنا حقا في حالة فرح ونحن نلمس هذه الانتصارات في المشاعر الجياشة للشعب العراقي الذي ما برح يعبر عن أفراحه بما سطّره الأبطال في سوح القتال، لكننا بحاجة قصوى الى البدء من جديد في صفحة جديدة يمكننا من خلالها البدء في بناء دولة ديمقراطية قادرة على إدامة هذا النصر وتحويله من صبغته العسكرية الى انتصار فكري نفسي معنوي يساعد العراقيين على النهوض من كبوتهم.
فإذا تمكن المسؤولون وقادة الدولة والنخب الدينية والسياسية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني وسواها من تحويل النصر العسكري الى نصر فكري معنوي نفسي، فإننا نكون قد بدأنا بالفعل في وضع الأسس الصحيحة لبناء الدولة التي يقودها الفكر المتقدم والعقل المحنك، فلا يمكن أن يدوم الانتصار العسكري ما لم يسانده انتصار للفكر والقيم والمعنويات العالية، وهذه لا يمكن أن تتحقق إذا لم يبادر المسؤولون بالسرعة الممكنة بوضع الأسس واللبنات الأولى لترسيم الهيكلية المتطورة لأركان الدولة الديمقراطية المحمية بنظام دستوري ثابت الحضور والأفعال.
ولو أننا بحثنا هذا الأمر بالطرق العلمية الصحيحة، وأوكلنا الأمور الى الجهات والمنظمات والشخصيات والكفاءات القادرة على صياغة مشروع دولة دستورية ناهضة، فإننا نكون قد خطونا الخطوة الأولى الصحيحة على طريق التغيير نحو الأهداف المرسومة، خصوصا أن الفكر المنتصر والمستمد من النصر العسكري سوف يستقر في عقول العراقيين لدرجة أن الفرد العراقي أصبح اليوم على استعداد تام لاستقبال الفكر المتوقد والاستفادة من المعنويات العالية وتأمين الوضع النفسي المستقر لعموم العراقيين، وهذا سوف يساعد على خلق شخصية عراقية جديدة ملتزمة منضبطة متفائلة عملية تضع ما مضى من مآس وآلام وحرمان خلف ظهرها، وتحث السير بقوة نحو حاضر متوازن ومستقبل مشرق.
نحن هنا لا نتحدث عن أحلام أو تمنيات يصوغها الخيال الجامح، إننا نعيش وقائع مرئية ومحسوسة، تضع النصر العراقي للقوات المسلحة والحشد الشعبي والتشكيلات الساندة فوق رؤوس الأشهاد، ليعرف العالم أجمع أن المقاتلين العراقيين دحروا همجية الإرهاب وكسروا شوكته الى الأبد، وبالفعل ها هو العالم، (أصدقاء وأعداء) يعلنون إعجابهم بما حققه العراقيون من ملاحم عظيمة لا يمكن أن يغفلها التاريخ العسكري، من هنا فإن جميع المسؤولين والقادة مطالبون بتحويل النصر العسكري الى نصر فكري نفسي معنوي يساعد العراقيين على تغيير حياتهم وأوضاعهم من خلال التغيير الفكري وهو العامل الأقدر على قلب المعادلة لصالح بناء الدولة العراقية الديمقراطية المتطورة.
بالطبع مع إجلالنا لهذا النصر الكبير، لكننا لا نريد أن نكتفي بما تحقق عسكريا، فالحقيقة أن لحظة البناء بدأت الآن، أي بعد لحظات الانتصار العسكري، هكذا ينبغي أن يفكر القادة والمسؤولون في إدارة الدولة او خارجها من النخب المدنية، فالمطلوب فورا وضع الخطط المدروسة بخبرات مؤهلة داخلية وخارجية وكفاءات تضع الخطوات العلمية العملية والأسس القوية لنشر روح الانتصار والتحدي بين العراقيين جميعا، والانتقال من مرحلة التلكؤ والتردد الفكري المعنوي الى مرحلة البناء السليم للدولة المتميزة.
وهذا لا يمكن أن نلمسه كعراقيين ما لم تبدأ (الأجهزة والمؤسسات المعنية) بحملة كبرى لاقتلاع الفاسدين والمفسدين والفساد من الجذور، فالنصر الحقيقي يكمن ها هنا، وفي حالة بقاء الفساد بشبكاته ورؤوسه وحيتانه كما هو عليه الآن، فإن النصر العسكري المتحقق على الإرهاب سوف يتم ابتلاعه وتذهب كل هذه المنجزات سدى، فمن الأهمية بمكان أن تبدأ الصفحة الأخرى للنصر، بخطوتين متزامنتين هما:
الأولى: صنع العقلية والشخصية العراقية فكريا ومعنويا بما ينسجم مع ما هو متحقق من انتصارات على الإرهاب، وتحويل الشخصية العراقية من محبطة خاملة قدرية الى حيوية فعالة مندفعة نازعة الى المشارِكة في صنع الأحداث وليس مراقبة ومنتظرة لما سيحدث.
الثانية: البدء بصفحة (مكافحة الفساد) على أن تكون متزامنة مع التطوير الفكري والعقلي، وأن يتم دراستها ووضع الخطوات العملية لها بدقة، ومنح القضاء قدرات كبرى في هذا المجال، ودعم مؤسسات النزاهة بما يجعلها قوية مستقلة بعيدة عن هيمنة الكتل والأحزاب والشخصيات السياسية، ذلك أن القضاء على الفساد مرتبط بفصل السلطات القضائية ومفوضية النزاهة عن سلطة وتدخل الأحزاب السياسية في عملها.
وحين العمل بهاتين القاعدتين، فإننا نكون قد حولنا الانتصار من عسكري قتالي في جبهات الحرب ضد داعش، الى انتصار فكري معنوي نفسي يمنح الشخصية العراقية أبعادا هائلة في الفعل والرؤية والحذق والمشاركة الفعالة في صناعة الحياة الجديدة، كما أن الجهات المعنية (القضاء والنزاهة) والجهات ذات العلاقة، سوف تكون أكثر قوة وقدرة على ملاحقة ومطاردة رؤوس الفساد، وحماية الأموال العامة، عندئذ ستكون النتيجة بناء مجتمع ذو شخصية متفائلة قوية حاذقة مدعومة بفكر متوقد ومعنويات عالية ونمط نفسي مستقر متوازن، مع تهيئة مستلزمات محاربة الفساد وأربابه بصورة عملية رادعة متدرجة.
اضف تعليق