حين التأمل العميق في طبيعة المشكلات والأزمات التي يعاني منها الواقع الإسلامي المعاصر. تتأكد الحاجة إلى ضرورة العمل على بناء دولة حديثة حاضنة لشعبها ومعبرة عن ذاته وخصائصه، وتعمل بكل إمكاناتها من أجل حمايته من المخاطر وتحقيق مصالحه الراهنة والمستقبلية.
لأن أم المشاكل إذا جاز التعبير الذي يعاني منها المجال الإسلامي هو في طبيعة دول قائمة التي تلتهم كل ما عداها، وتتعامل مع شعبها وكأنه خصمها الذي يجب إضعافه وإشغاله بأمور وقضايا أقل ما يقال عنها أنها تافهة. وقدمت الجماعات الإسلامية نفسها في الفضاء السياسي والثقافي الإسلامي بوصفها هي التي تمتلك الحلول والمعالجات لأزمة الدولة المعاصرة من المنظور الإسلامي.
ومع صعود بعض الجماعات ووصولها إلى الحكم، أبانت هذه الجماعات عن ضعف حقيقي على مستوى اللياقة والفهم والتسيير لشؤون الدولة، ولم تقدم خلال هذه الفترة أي منجز يكون شفيعها سواء لدى شعبها أو النخب السياسية المنافسة. بل في بعض الأحيان قدمت نماذج عكسية على هذا الصعيد.
فالخطابات الدعوية والوعظية بوحدها، لا تعكس قدرة على تسيير شؤون الدولة بطريقة مغايرة للطريقة التي سارت عليها النخب السياسية الفاشلة أو التي أخفقت لاعتبارات عديدة في إدارة مؤسسة الدولة بطريقة تنسجم والرؤى الأيدلوجية والفكرية التي تحملها وتتبناها.
فبعض النخب تعاملت مع مؤسسات الدول بعقلية حزبية ضيقة، بحيث طردت من فضاء تلك الدول كل الكفاءات والقدرات التي لا تنسجم ومنطقها الأيدلوجي والحزبي، ومن جراء هذه الممارسة الاستئصالية، أفقرت مؤسسات تلك الدول من الكثير من الطاقات النوعية القادرة على تسيير شؤون تلك الدول. ولكون مؤسسات الدول لا تتحمل الفراغ فقد قامت تلك النخب والأحزاب بتقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة، مما أسهم بشكل مباشر في إخفاق مؤسسة الدولة في الكثير من خياراتها ومشروعاتها. لأن تلك النخب والأحزاب تعاملت مع مؤسسات الدولة بوصفها غنيمة لكل أتباع الحزب أو الأيدلوجيا.. ولعل الكثير من الأزمات التي عاناها المجال الإسلامي خلال العقود الماضية، يعود في أحد أسبابه إلى عدم قدرة تلك النخب من الفصل بين فضائها الأيدلوجي والحزبي وفضاء الدول والمصالح العليا للشعوب. فأضحت مصالح الحزب هي ذاتها مصالح دولة، وأصبحت كل المناصب والمسؤوليات من نصيب أولئك النفر الذي يتزلف أيدلوجياً أو سياسياً لتلك النخب الحاكمة.
ومن جراء هذه الخطايا تحولت تجربة تلك الجماعات الأيدلوجية في الحكم وإدارة الدول، إلى أحد الأسباب المباشرة للمزيد من التراجع والإخفاق. فتلك الجماعات الأيدلوجية لم تكتف بنهب الثروات وقمع وقتل العقول ووأد الكفاءات والإبداعات، وإنما عملت على تجويف كل مؤسسات الدول من الداخل، عبر التعامل معها بوصفها من أملاك تلك الأحزاب أو أمينه العام وزبانيته المباشرين. فإخفاق تلك التجارب والمحاولات الأيدلوجية في إدارة وتطوير مؤسسات الدول، جعل جميع الأنظار والآمال تتجه صوب الجماعات التي تحمل شعار الإسلام وتتبنى مقولاته ومعاييره.
ولا شك أن طبيعة الخطاب الدعوي والمثالي الذي حملته جماعات الإسلام السياسي ساهم بشكل مباشر في حصر أمل الشعوب للتخلص من التخلف والاستبداد في هذه الجماعات والتيارات. ولكن ولأسباب سياسية ومجتمعية عديدة، ساهمت التجربة البسيطة والقصيرة زمنياً لجماعات الإسلام السياسي في إدارة الحكم في بعض الدول التي اصطلح على تسميتها بدول الربيع العربي في وأد هذا الأمل.. فبعض جماعات الإسلام السياسي أدارت مرحلة الربيع العربي بالكثير من التسرع والعجلة واللهث للوصول إلى السلطة السياسية، مع إدراكهم النظري والثقافي، أنه ثمة صعوبات جوهرية تواجههم تحول دون قدرتهم على تنفيذ مشروعهم أو برنامجهم السياسي.
وأود في هذا السياق أن أوضح هذه المسألة من خلال النقاط التالية:
1. في البدء من الضروري إدراك أنه ثمة فروقات جوهرية بين مرحلة الدعوة ومرحلة الدولة. في المرحلة الأولى المطلوب من هذه الجماعات تغذية المثال وما ينبغي أن يكون، مع استخفاف تام بطبيعة عمل الدول وآليات تسيير الشعوب في ظل أوضاع سياسية واقتصادية صعبة ومع وجود إرادات سياسية محلية وإقليمية ودولية متناقضة ومتصارعة.
وبين مرحلة الدولة التي لا تحتاج إلى مواعظ وخطب دعوية تدغدغ المشاعر، وإنما تحتاج إلى برامج ومشروعات عملية تحول التطلعات الفكرية والأيدلوجية إلى وقائع وحقائق في المجتمع والثقافة والاقتصاد. ومن المؤكد أن الناس لا تنتظر منك في المرحلة الأولى إلا الخطاب الدعوي والوعظي. أما في مرحلة إدارة الدولة فالناس يطلبون أمناً واستقراراً سياسياً وأوضاعاً اقتصادية ومعيشية مناسبة.
فالاختلاف ليس بسيطاً بين مرحلتي الدعوة والدولة. ولعل الخطيئة التاريخية التي ارتكبتها بعض جماعات الإسلام السياسي أنها أدارت مرحلة تمكنها السياسي بعقلية مرحلة الدعوة. فاكتفت بالشعارات والمثاليات، دون أن تحقق منجزات فعلية للناس.. وهذه المفارقة وضحت للكثير من الناس، أن متطلبات إدارة الدول مختلفة تماماً من مرحلة الدعوة والوعظ والإرشاد. وإن النجاح في مرحلة الدعوة، لا يعني القدرة على النجاح في مرحلة الدولة. لأن لكل مرحلة متطلباتها ولوازمها. فالدول لا تدار بالمواعظ، مصالح الشعب لا تصان بالخطب الرنانة.
2. الفوز في الانتخابات مهما كان حجمه، لا يبرر التعامل مع المنافسين بمنطق الغلبة والهيمنة. لأن هذا المنطق يقود على المستوى العملي إلى توسيع دائرة الخصوم، دون امتلاك القدرة الفعلية على تغيير المعادلات الفعلية القائمة.
ونعتقد أن الدول في العصر الراهن، لا تدار بمنطق الغلبة والهيمنة، لأن هذا المنطق سيحول الدول ككيان ثابت ومؤسسي، إلى عصي على الاستيعاب. وبالتالي فإن المعادلة تتحول من دائرة توسيع المشاركة السياسية في الحكم وإدارة الدولة، إلى دائرة الهيمنة على كل مصادر القرار في الدولة. والبون شائع بين هاتين الدائرتين.
فالدول المعاصرة تبنى وتدار وتحمى بتسويات ذات طابع تاريخي تحول الخصوم إلى شركاء في إدارة الدولة. وهذا ما لم تفعله بعض جماعات الإسلام السياسي، مع إدراكنا التام، أن بعض خصوم هذه الجماعات عمل ليل نهار على إفشال تجربتهم ومراكمة الضغوط السلبية عليهم.
3. من الضروري التفريق بين مسألة بناء نظام سياسي ديمقراطي، تداولي، وبين هيمنة بعض جماعات الإسلام السياسي على الحكم. ولعل من الملاحظات الملفتة أنه ثمة خلط غير مبرر بين هاتين المسألتين. فثمة إمكانية أن تبنى أنظمة سياسية، تعددية، وجماعات الإسلام السياسي في موقع المعارضة. كما أنه ثمة إمكانية لبناء أنظمة سياسية، تعددية وبعض جماعات الإسلام السياسي في موقع الإدارة والحكم.. فالهدف الأساسي ليس من يحكم، وإنما تذليل كل العقبات التي تحول وتمنع بناء أنظمة سياسية، تعددية متحولة نحو الديمقراطية، بصرف النظر عن الجماعة السياسية القادرة على إنجاز هذه المهمة التاريخية.
وخلاصة القول: إن تجربة بعض جماعات الإسلام السياسي القصيرة والأخيرة، أبانت عن بعض الأخطاء الذاتية والموضوعية، التي فوّتت على المنطقة بأسرها، إمكانية الانطلاق الفعلي في مشروع التحول نحو الديمقراطية. وإن مآلات بعض دول الربيع العربي، ينبغي أن تدفع جميع القوى نحو تجويد خطابها وتطوير برنامجها، بحيث تتحول إلى قوة اجتماعية، مدنية، تعمل من أجل بناء حقائق الديمقراطية في الفضاءات الثقافية والاجتماعية والسياسية للدول.
اضف تعليق