تعد ظاهرتا الحرب والسلام من أقدم الظواهر السياسية التي عرفتها المجتمعات البشرية منذ القدم والتي ارتبطت ارتباطا بالقوة وتحقيق أسبابها. ولسعي الجميع -بدافع الخوف بشكل رئيس وبسبب من الطبيعة الفوضوية لغياب سلطة الفعلية في المجتمعات الأولى - لكسب القوة لتعزيز الأمن والرخاء- حدث الصدام ونشب الصراع. لذا عمدت تلك المجتمعات إلى ابتكار آليات سياسية لتوزيع القوة بما يضمن تمتع الجميع بنسب معينة بحسب قوته الذاتية وتأثيره للحفاظ على نوع من السلام.
على المستوى الدولي، وقبل ظهور الدولة القومية عرفت المجتمعات الأوربية محاولات عدة لإحلال السلام من قبيل "السلام الروماني" الذي أرسته السلطات بين شعوب الإمبراطورية المترامية الأطراف كما عرفت "السلام المسيحي" كحل للصراعات بين الشعوب الأوروبية المسيحية والتي نجمت عن التفتت الذي لحق الإمبراطورية الرومانية فيما بعد ونشوب الصراعات بين الأمراء والملوك الأوربيين في ظل سيطرة الكنسية البابوية.
إلا أنه لم يصمد طويلاً فكانت اتفاقيات ويستفاليا 1648 التي أرست دعائم توازن القوى كآلية لتنظيم القوة وتوزيعها بين الدول الأوربية المتحاربة، وهو وإن نجح جزئياً ومؤقتا في الحفاظ على سلام قلق وهش فيما بينها إلا أن النهاية كانت مأساوية بنشوب الحربين العالميتين.
ثم جرى إحلال صيغه أكثر تقدما قائمة على أساس الأمن الجماعي لمنع تركز القوة لدى طرف وإيكال مسؤولية حماية السلام على عاتق الجميع، وعلى هذا الأساس قامت الأمم المتحدة بمؤسساتها المختلفة لتتكفل بحماية الأمن والسلام في العالم، واستطاعت برغم الكثير من الإخفاقات المتمثلة في النزاعات المحدودة بين الدول الصغرى والنزاعات الداخلية إلا أنها نجحت في منع وقوع حرب بين الدول الكبرى والحفاظ على نوع من أنواع السلام أكثر استقرارا.
وللوصول إلى أسس تعضد وتقوى السلام وتعمل على صيانته جرى الحديث عن دور الديمقراطية في تعزيز السلام. ويجادل هؤلاء أن نشر الديمقراطية ووجود أنظمة ديمقراطية على رأس السلطة يشكل ضمانة ضد وقوع نزاعات داخلية أو حروب خارجية.
ففي ضوء التبدلات في موازين القوة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة والتي أفضت إلى إقامة نظام سياسي دولي جديد على أساس القيم الغربية، لاقت نظرية "السلام الديمقراطي"، إحدى أهم النظريات في السياسة الدولية التي أطلقها فرانسيس فوكوياما، رواجاً بين الأوساط السياسية والأكاديمية الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة. يجادل فوكوياما أن الأنظمة الديمقراطية تميل إلى تبني سياسات تعاونية في التعامل مع أنظمة مشابهة لها في حل القضايا الخلافية التي قد تحدث فيما بينها بخلاف الأنظمة الديكتاتورية التي تميل أتباع سياسات صراعية وإلى الحرب في تعاملها مع أقرانه. هذا السلوك يرى أنه يرتبط وإلى حد كبير بالتجانس بين التقاليد السياسية والاقتصادية والتكامل في الاهداف والمصالح النهائية كما يرتبط بصعوبة تمرير قرار بشن الحرب وتعدد حلقات اتخاذه في الأنظمة الديمقراطية بالمقارنة مع الأنظمة الديكتاتورية التي يتمتع فيها الديكتاتور بصلاحيات واسعة في هذا الشأن.
ويعضد أصحاب هذه النظرية آرائهم بالقول أن العالم لم يشهد حرباً بين ديمقراطيتين في حين شهد مئات الحروب التي نشبت بين الأنظمة الديكتاتورية. هذا بالرغم من حدوث عدة حالات شنت فيها دول ديمقراطية حروبا ضد دول ديكتاتورية أخذت طابعا استعماريا بدافع السيطرة والنفوذ إلا أن القاعدة العامة هنا تشير إلى أن الدول التي تتمتع بأنظمة ديمقراطية هي أقل استعدادا للحرب من الأنظمة الديكتاتورية لوجود قيود أكبر على عملية اتخاذ القرار. لكن ماذا عن النزاعات المسلحة غير الدولية ذات الأبعاد الداخلية هل من الممكن أن تجلب الديمقراطية السلام والاستقرار؟
في الشأن المحلي، إن الديمقراطية، باعتبارها شكلا من أشكال إدارة القوة بشكل سلمي داخل المجتمعات وآلية للتداول السلمي وإدارة السلطة - يمكن أن تلعب دوراً مهماً في إقامة السلام ومنع نشوب النزاعات فيما إذا منحت فرصة لقيامها بشكل حقيقي. ان الأنظمة الديكتاتورية أو تلك التي حديثة عهد بديمقراطية تميل عادة الى عدم الاستقرار غالباً بسبب غياب تقاليد سلمية في إدارة الحكم والثروة، الأمر الذي يعمل على تحفيز العوامل المؤثرة في نشوب نزاعات جديدة محتملة بشكل أكبر من الأنظمة الديمقراطية.
هنالك العديد من المحفزات ومسببات عدم الاستقرار المرتبطة بشكل وثيق بغياب الديمقراطية بسبب غياب الشفافية والمكاشفة وحلقات المراقبة، لكن قد يكون من أهمها:
* عدم شرعية الحكم أو شكوك حول عدم شرعيته.
* سوء توزيع الثروة والدخل.
* ضعف التنمية الاقتصادية وأثرها في تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية.
* استشراء الفساد وسوء الإدارة.
* القمع وغياب الحريات واعتماد الحلول الأمنية لمعالجة المشكلات الاجتماعية.
هذه العوامل تلعب دوراً سلبيا مباشراً في غياب الأمن وعدم الاستقرار في المجتمعات المحلية وهي ناجمة عن ممارسات ديكتاتورية سلطوية وبالتالي فإن فرص اندلاع نزاعات مسلحة ستكون أكبر بكثير مقارنة مع نظيراتها في ظل حكم ديمقراطي حقيقي.
وبالرغم من أهمية الدور الذي تلعبه ظاهرة الإرهاب والتدخلات الخارجية في عدم الاستقرار في الأنظمة المحلية ودورهما في نشوب النزاعات المسلحة إلا أنها غالباً ما تكون عاملا مساعدا وليس رئيسا أو حاسما، كتلك التي تمثلها عوامل عدم الاستقرار المحلية المرتبطة بالحكم الرشيد والاقتصاد. لا خلاف في عد ظاهرة انتشار الإرهاب أكبر تهديد يواجهه النظام الدولي لكن نختلف في تعاطي الحكومات معه وطرق مواجهته وهي بطبيعة الحال لا يجب أن تقتصر على القوة العسكرية والحلول الأمنية بل لا بد من عوامل سياسية واقتصادية ترافقهما إذ بخلاف ذلك فإن الإرهاب سيعاود الظهور مجدداً.
ووفقاً لما تقدم، يمكن القول أن لا صيغة بديلة عن الديمقراطية لإدارة القوة في المجتمعات المحلية وبالتالي فإن تحقيق الاستقرار ومنع نشوب نزاعات جديدة يبقى، وإلى حد كبير، رهنا بقيام حكومات ديمقراطية حقيقية أكثر تمثيلا لشعوبها وتتمتع باقتصادات قوية قادرة على إيجاد فرص عمل وإعادة الإعمار، والشروع بسياسات ترسخ التعايش السلمي وتعزز الانسجام الوطني وتعزز المشاركة الشعبية في النظام السياسي، من قبيل تحقيق العدالة الناجزة وتطبيق القانون ودعم استقلال القضاء وإبعاده عن المؤثرات السياسية والمساواة والعدالة الاجتماعية ودعم الطبقات الفقيرة والمسحوقة، وإتباع برامج تطويرية لرفع مستوى التعليم والقضاء على الجهل لحمايتها من الوقوع ضحية الاستغلال في أي نزاعات مسلحة قادمة.
إن القيام بتلك الخطوات وبشكل جدي وحاسم وبالإضافة إلى انتهاج سياسة خارجية تعاونية غير تدخلية على المستوى الدولي، وفيما إذا مآ توفرت لدى الأطراف المحلية المختلفة الرغبة في السلام، فإنها ستمثل الضمانة الأكيدة للسلم الأهلي وسدا منيعا ضد التدخلات الخارجية وظاهرة الإرهاب وهو ما سيكون له أعظم الأثر في منع نشوب نزاعات مسلحة جديدة أو على أقل تقدير تقليل فرص نشوبها في المستقبل وتعزيز فرص بناء سلام دائم.
اضف تعليق